على الكلمة الوهاجة نلتقي

زودونا باحساساتكم

السبت، 28 أغسطس 2010

مازالت الحرب مستمرة

حكايات عراقية




زرقة الندم

شابا تزيا بثياب امرأة نفخ صدره وحف حاجبيه وكحل رموش عينيه وتمايل في مشيته كبنت ليل مدربة وطق باللبان بين أسنانه سيره

شممت رائحة فرجها وأنا مازلت أخيط ببنطلونها

كنا وحيدين تماما في تلك الساعة نسير فوق شارع الطيران حين نشبت الحرب سيارتي التاكسي لم تكن تقف بعيدا آنذاك عن سينما أطلس

تكرر منظر الطائرات التي كانت تلقى بحمولتها حوالينا وتفر بسرعة تفوق انفجار الصوت هربا من سيل طلقات المدافع المضادة, كانت الحرائق تندلع

هاهنا وتنشب هناك والبنايات تحترق والناس يحتمون بالملاجئ الكونكريتية المحصنة ويلوذون تحت البنايات الشاهقة

كان كيس نفر الكباب ما زال بيدي وأنا أركض هلعا صوب سيارتي عبرت جدارية فائق حسن دون أن أدر وانحرفت يسارا بمحاذاة حديقة الأمة حتى جلست وراء مقودها وأدرت المحرك الذي نقر معتلقا دون أي تردد

لم يكن أحد يصدق ما كان يحدث من حوله في تلك الأثناء رغم اندلاع النيران التي بالفعل قد أخذت تلتهم عينات من المدينة وتزحف على الأطراف التي لم يصلها اللهب ,الخبز أخذ ينفد من الأفران والخضار بدأت تشح من الأسواق والعملة تتهاوى يوما بعد آخر أمام أثمان الأطعمة والخضراوات, كنت ترى خيبة ذلك على وجوه الناس الذين يأتون بجيوب منتفخة بالدنانير وينفقونها على كيس خضار أو عدد من أرغفة الخبز, الشوارع شبه مقفرة والمارة يهرولون ويتراكضون هلعين بجانب ظلال الحوائط هربا من شظايا القنابل التي كانت تنهال على رؤوسهم بكل هولها وبقع الدم المهروق من الأجساد المثخنة بالشظايا يلطخ الشوارع

وينفرش على الإسفلت ليرسم لوحات دامية,

وصور الدور المحطمة التي أصبحت شاهدا حيا على حقيقة الدمار مشهدا طبيعيا

الشوارع الجانبية التي كانت تغص بالدوريات الحزبية والطرق الرئيسية التي اكتظت بالأرتال العسكرية والمعدات وجنود المشاة والدبابات والمدافع الجاثمة على ظهور الساحبات والجنود الذاهبون للجبهات الذين يلوحون بتحيات الوداع ربما كانت تلك تلويحتهم الأخيرة, المشهد يكتظ بالمتناقضات والشوارع

تكفهر بلغط المطاردات التي تتعقب فيها قوى الأمن الفارين من الجندية والعيارات النارية التي تسعى لاصطيادهم في عرض الطريق وفي العطفات

ـ أقتلوهم..

ـ أقتلوهم..

كان يصيح قادة الحملات

أضحت تلك المطاردات مع مرور الزمن عرفا يوميا لحرب لا تتوقف طبولها عن الدق أبدا,

في لجة ذلك

كان السؤال الذي يجول في خاطري ولم أتجرأ على توجيهه لرفيقي:



ـ هل أننا سنحترق؟ أننجو من ألسنة اللهب ؟أم أن النهاية قد دنت وأن الموت لن يستثني أحدا؟

لم يعد أحدا منا يذكر المستقبل بشكل نهائي, كان التفكير منصبا على الفرار رغم أن الجدران كانت ترتفع عاليا حول تلك الفسحة التي كنا نتحرك على ترابها حتى أمست في نهاية المطاف سجنا محاطا بأسلاك الخوف ومعرقلات الرعب المزمن

بعد أن مشت البلاد مشيتها الجنائزية ولبست ثوب حدادها القاتم صار منظر الظلام الذي كانت تسلم به جثث الضحايا لذويها فعلا مكشوف الطوية لأن الجميع كان يعرف هشاشة التغطيات المتخذة بإخفاء المأساة وأن إسكات الناس وكتم صرخاتهم لم يعد كفيلا بحجب حقيقة الحرب

معظم الحيل التي كانت تتبع مع ذوي الموتى كانت عديمة الرحمة وضئيلة النفع بدحض كمية الرعب والهلع



مئات من الجثث تتكوم في عنابر الطب العدلي وتضل مرمية في المجمدات لأشهر دون أن يتعرف عليها أحد من ذوي المفقودين مجرد لشش من اللحم المثلج معبأة بأكياس وملقاة في البرادات

لا أحد يتعرف على هويتها

اللافتات السود تزين الحوائط بالأسى والألم , السرادق تربعت في الطرق واحتلت الأفرع واكتظت بالرجال المسبحين بسور الفاتحة وبالنواحات والنسوة المربربات بأصوات تتداخل مع صوت القرآن في مجالس العزاء لتبث شيئا من المرارة وتحث اللاطمات على اللطم روائح الأطعمة الرز المحترق وبخار المرق وشعواط لحوم الغنم التي تفح منها الروائح المشهية

كنا أثناء سيرنا نتفادى حطام الحرب ونحث الخطى بحذر بين الدرابين المريبة متحملين الوحل الصمغي والتوجس والقلق والخشية من المفاجآت القاتلة كنا نمضي بين خليط مجهول من الكوارث, بعد أن ضرب الليل خيامه والحرب طاب لها المقام في بلاد ما بين النهرين المدافع الخفيفة المتناثرة على سطوح المدارس والمباني الحكومية تهلهل طلقاتها وراء الطائرات الفارة والتلفاز يعد نفسه ويتهيأ برصانة غير موقرة لإذاعة البيان الأول

الذي سبقته قصائد عبد الرزاق عبد الواحد الملفقة وهوسات جماعية تؤدى من قبل كوادر التلفزيون وزفات الأغاني الحماسية التي كانت تظهر بين صورها الجثث المحترقة والآليات المحطمة ووجوه المغنيين الشاحبة والإذلال باد عليهم زائدا الإجهاد وقسوة الواجب الذي كانوا يؤدونه رغما عن أنوفهم,

الشعراء والموسيقيين يردحون ليل نهار على القناتين ببدلات الزيتوني ويسبحون بنعم الحرب

جندي تظهره كاميرا الحرب يشق ملجأ في الأرض وآخر يغذي مدفعا بالقذائف ودبابة تتقدم نحو رحبة محصنة وبلدوزر يدوس ساترا طويلا بطول الحدود اللعينة, الحدود التي كانت تشتعل بالقذائف والرصاص وتعمر بحفلات الطائرات التي تغير على أرض العدو والمدافع النمساوية طويلة المدى التي تلعلع أصواتها في سماء الليل وتجأر أشداقها عاليا

والألوية المدرعة تتقدم والسماء تمج الدخان المر والكون يغص بالحرائق ويتجشأ باللهب والروائح الآدمية المتعفنة,

السجون تغص حد التخمة بآلاف الهاربين والمتخلفين من الجيش وعيون الأمن السري تحاصر عطفات الشوارع من أجل تغرير الأولاد الصغار من لم تتعدى أعمارهم الثالثة عشرة وتجنيدهم في وحدات الجيش الشعبي

الناس يولولون على موتاهم بصمت وبصراخ أكتم, دون التجرؤ على توجيه اللوم لأحد خوفا من فرية من فريات الخيانة الجاهزة لكل من يخالف ذلك...

الآباء والأمهات يدفعون أولادهم لجبهات الحرب دفعا بالأنتخاءات والتضرعات لأن أية مماطلة أو تخلفا عن الالتحاق سيعني افتضاحا وتقاعسا عن أداء الواجب بنظر الجيران الذين تحولوا بقدرة قادر بين ليلة وضحاها إلى أذان تصطاد أية نأمة وعيون أمنية تفتش عن الشاردة والواردة

كان يرمى بالفتيان في أتون تلك الحرب التي لا آخر لها كما ترمى أعواد الخشب في مواقد النيران اللاهبة

الجميع يدفع أولاده للحرب كما لو كانوا نفايات الواجب التخلص منها بشتى الأساليب الشيطانية التي دأبوا على أتباعها معهم ليرسلونهم إلى الموت وينتظرون بعد مضي أيام مجيء أخبار التوابيت

الجميع تقريبا كان قد أتقن الوشاية والنفاق والخسة والنذالة, سكنة الحي والأقرباء على حد سواء الانضباط العسكري والأمن وأفراد الحزب والمخبرين

حتى الحوائط صار لها أذنان في عراق الثمانينات

لم يعد هناك مفرا من أداء الخدمة العسكرية

في حمى ذلك الجو المكهرب المشحون بالتنافس والضعة كانت أم الشهيد تباهي الأخريات بخرخشة حليها وأساورها الذهبية أثناء عدها المكارم والأعطيات التي قدمتها لها القيادة

كنت أتلصص على عمتي من خرم باب غرفتي وهي تباهي الأخريات بما جنته من ذهب وخواتم فضة بعد موت أبنها الأصغر

كانت الأحاديث تجري بين الناس على هذا النحو من الوقاحة

فكن الأمهات من لم يفقدن أبناءهن بعد في سوح الحرب دفاعا عن حياض الوطن يتنهدن بحسرة وحسد وبشغف واضح لنيل تلك المغانم المفاجئة والوصول بأسرع وقت إلى ذلك الثراء المؤجل

كل شيء كان يركض وراء رزم الدنانير ويتقدم صوب حدفه كل واحد منا كان يمضي صوب أطماعه الجنونية ونفاقه الشخصي ويمكن أن يعدد لك أي رفيق من رفقاء الصدفة عدد المكارم وأنواعها بلغة خالية من العفة, لغة تفح بالصلف والنتانة لا تدري من أين أتى بها ومن أي قاموس أستقى مفرداتها: أكياس الرز وتنكات السمن والسيارة البرازيلي وقطعة الأرض و وفواتير البناء وحديد التسليح المدفوعة سلفا من ألفها إلى يائها وأنواط الشجاعة التي تجعل منك بين ليلة وضحاها صديقا للرئيس كل هذه الأكياس والسلال من الهدايا لم تكن تمنحني سوى مزيدا من

التجشؤات والقيء في عالم لم أجد فوق ترابه سوى الجثث المتفحمة والفئران والضفادع وجبالا من الوحل والرياء والزيف والسفسطة المملة تدفعني على البصاق

كانت السماء قد تكهربت زرقتها في عيني بعد أن ساقوني رجال الأمن بالعصي لمعسكرات التدريب أنا وحفنة من المتملصين من أمثالي سواق التاكسيات الذين كان الطريق ملاذنا وحامينا من فخاخ الموت كنت أمشي على الحافة لكني كنت بمنأى من أن أكون جزئية من جزئيات الحرب كنت حريصا على أن أضل متفرجا على ما كان يحدث في الحرب كل راكب من الركاب الذين أنقلهم من مدينة لأخرى له قصصه حكايات لا حصر لها تحكى لي على الطريق وأنا في هدنة مع الحرب لأن مهمتي لم تكن تتعدى غير قطع المسافات والدوران حول الساحات ومشاركة الزبائن أحاديثهم والأخذ والرد حول ما يحصل من حولهم كان هناك من يحثني على السير بسرعة لأن لديه موعدا غراميا مع فتاة وهناك من يريد أن يستلم جثة بعد أن حصل على الأذن بدفنها طلبة الكليات والأساتذة بائعي الخضار المعاقين الغجر والشحاذين المخنثين وبنات الليل وعاهرات الأسواق ساعات طويلة ألف خلالها مثل مكوك حول المدينة الشوارع أعرفها شارعا بعد شارع المسارح السينمات والمقاهي والمطاعم والناس كل شيء مكشوفا أمامي كانت حياتي حلوة بعض الشيء لأني كنت أستمتع بأوقاتها المستقطعة كأجازة مفتوحة من الحرب تلك الهدنة الحذرة علمتني أن للوقت قيمة لم أشعر بها من قبل والتمتع في الحياة حتى لو كان الثمن باهضا



كانت المجادلات الجوفاء تقدم براهينها بشكل علني على أن العراقيين سوف يرقصون على أكتاف الموت

بينما كان موتهم قد بدأت علائمه تلوح للملأ وغيومه المحملة بالأشلاء قد أخذت تتهاطل لحما وتسيل دما ورمادا لاح لي أن جريانه لن يتوقف إلى أبد الدهر

لم يمسني الخدر ولم تلامس قشرة بدني قشعريرة الأهازيج التي كان صخبها يتعالى فوق الضجات الأخرى لم أشعر حيالها بالحماسة التي أصيبت بها العامة كان الجزع هو الطاغي على ردود الأفعال التي ترد على ذلك الضجيج الأجوف

الكل كان مأخوذا بحمى الانتصار وكأنه تذكرة سفر لم يفكر أحد بدفع ثمنها؟

الجميع يتشدق بالبطولات ودحر العدو في الشوش وفي سربيل

زهاب بينما كنت ورفاقي نتحدث عن الهزيمة في الفاو ببطوننا, طبعا الهزيمة الكبرى التي لم يكن أحد من زبائني يستطيع أن يجهر بها

لذلك كان الحمقى هم السعداء لأنهم الأكثر صدقا وصراحة من الآخرين,

فقط من كان بين اللهب كان هو وحده يحاول إطفاء اندلاع النيران

بينما من كان هائجا في حلبة الثيران لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم إلا من مؤخرته لأن المنطق ضاع تحت حوافر الركضة الجماعية العمياء التي أدت بالجميع إلى الهاوية

لم يفكر أحد بالموتى الذين أطفئت أرواحهم وعلقت عيونهم في تراب النسيان في الوجوه التي أكلتها سحب الذباب بعد أن داستها دبابات الحرس وبددت ملامحها النيران, لم يفكر أحد بالأم التي لن تقايض ولدها بأي ثمن والزوجة والحبيبة والأب الغير قابل للمساومة لم يكن الجميع قابلين للبيع بالطبع.

لكن معيار الحرب كان له تسعيراته وموازينه

فكان هناك من له تسعيرة بخسة وهناك من لا تسعيرة له والأخير كان هو المعضلة بالنسبة لتقدم الدولة في جنونها الحربي وفي سير معاركها الفاشلة,

تمشية ذلك كانت تتطلب تضخما من البلاهة الفجة والخرتتة الوطنية الرعناء والشطط التام

لا أدر أي شيطان كان يدفع تلك البغال على انتهاج ذلك الأسلوب البهيمي وتبني تلك الترهات اللا آدمية ألم يكن يدر في خلد أحد من هؤلاء؟ أن البلاد ستسبح لسنوات في قبر هائل وسيمر أهليها بدرب الآم آخر درب مسيح يقطعه العراقيون وحدهم حفاة عراة وسيبكي كل واحد منهم على موتاه كل عراقي كان يبكي على حائط مبكاه

بينما العالم كان غارقا في الضحك ولاه باغتراف الملذات ونحن نزداد تولها بالأغاني الباكية الأغاني التي يبثها راديو سيارتي لا تتحدث سوى عن الفراق والموت وبيانات الحرب ولا تتطرق أبدا للحياة التي تستحق أن تعاش بعيدا عن النكد وغصات الألم..



كان الغرور الخانق يتضخم لدى طبقة الضباط والتفاخر الأرعن الفج كان يجتذب المزيد من الناس وكان السعار الوطني يتعاظم فحيحه يوما بعد آخر بينما الشك والريبة والتجسس والقيل والقال على أشدهما يتسامقان بتواتر نحو القمة ثم يتهاويان صوب هاوية لا نهائية

تنافس جماعي لإلحاق الأذى بالآخر والذات

كره وضغائن وأحقاد تتفشى وتنموا ساعة بعد ساعة لم يكن أحد يسمع تضرعات الثكالى كل كان صاما أذنيه

فكان مجانين بغداد تحت وطأة ذلك يزداد جنونهم بسبب تلك النفخة الوطنية البلهاء كان هناك من يظن أن زحف جيشنا سوف لن يتوقف إلا في هولندا وهناك من شنف مخيلته و تمادى بالتوقعات الواثقة من احتلال نهر المسيسبي بمجموعة من رعيان الجاموس شديدي السواعد وأن الأمر لن يأخذ سوى سويعات من الزمن لعبور جسر بروكلين فلم العجلة أذن؟

لم يكن أحد يجرؤ على كشف الخرائط لا أحد يستطيع أن يقف بوجه الصفاقة لا المرارات ولا المواكب الجنائزية لا أحد يستطيع أن يسكت هؤلاء النابحين الغلاظ

ـ لن يتوقف زحف جيشنا إلا على مشارف هولندا...؟

قال أخي الأكبر بغباوة حماسية وأندفع ينغم صوته وراء صولة المذيع الذي فرغ للتو من قراءة بيانه العاصف بصوته الحميري وكان قد تحدث عن حسم المسألة برمتها بظرف أسابيع وصدقت الناس ذلك التبجح الأجوف لكن سرعان ما توسعت النيران فانكشف حجم الدمار..

سرنا أنا وصاحبي متجنبين الطرق التي تفضي مخارجها إلى الهلاكات المحتمة كان الكونياك الساخن الذي شربته بصحبة سائقي التاكسيات في حانة البقاع المنخفضة عن سطح شارعي السعدون وأبو نواس يزيد خطاي خفة والنشوة التي كنت أشعر بها كانت تدفعني للتماهي بخطوي المضطرب لكسب الوقت والنوم بأمان لليلة أضافية بين أفراد العائلة لكن من يدري بما سوف يحدث غدا أو بعد لحظة الكل يبحر على ظهر مركب ناري فمن يضمن السلامة وهو يدوس بقدميه على أصابع الناپالم

في الليالي التي كنت لم أبت فيها عند سائق من سواق التاكسيات لا أعود لبيتي قبل الحادية عشرة ليلا ولا أخرج أيضا بعد السادسة صباحا أركب الشوارع فجرا وأبدأ بتصيد الركاب في المناطق الراقية خوفا من حملات التفتيش المفاجئة التي كنت أشمها من بعيد في حركة الناس ووجوههم المذعورة حملات كان يتم خلالها مسح المدينة مسحا تاما لاصطياد الفارين من الخدمة بعد أن تحاصرها تشكيلات الأجهزة الأمنية,

في الليل أبحر بهدوء في المدينة التي تخف بها الضوضاء وتقل حركة الناس كثيرا بعد أن تنفض الأسواق التي تضج بحركة المتبضعين وبلغط الباعة المتجولين وأصحاب الدكاكين والمحال وطلبة المدارس أطفئ الراديو وأشغل المسجلة فيأتي صوت أسمهان الذي يأخذني لعوالم الأحلام رغم ما يحيط بي من رعب أعمى أنساب على الطريق مثل هائم بالأمل ألف الساحات الخالية من البشر وحين يحدث أن يومئ ألي أحد بإشارة قف أتفحص هيئته أولا ثم أخفض سرعة السير وأقف أهرب من الساحات لرحابة أبو نواس أرى المشردين ينامون على ضفاف دجلة أنقل السكارى والساخطين على الوضع الذي ما أن يفتح الحديث عن الحرب حتى يبدءون بصب الشتائم على المسبب بما يصادفني المجانين وبنات الليل والخارجين من الملاهي الليلية والجنود الملتحقين والمجازين نساء ورجال ثملين يسيرون بخطى متعثرة يطوحهم السكر ذات الشمال وذات اليمين على الأرصفة وفي عرض الطريق وفي الصباح أشتغل على اللوامين

كانت امرأة مسنة يختبئ جسدها تحت عباءة سوداء وفي يدها الشاحبة ترفع صورة وتذرف الدمع

وتقول بصوت ناحب

ـ بية ولا بيك يا الولد يا بني

صرنا نشهد تفشي مشاهد البؤس وانقراض البهجة وتلاشي الصور الجميلة وتبدل لغة الناس واتضاح هشاشة مفاهيمهم وانحطاط قيمهم,

حتى الفتيات الجميلات صرن يتهافتن على الاقتران بذوي الرتب من الضباط والمعاقين ببتر طفيف

لم نعد نسمع غير الولولات وأغاني الدموع والكمد

وأنت تدب على الأرض تشعر أن خفافيش الليل تقتفي أثرك والأرض والسماء تحاصرك

بدأت تظهر بشاعة صور الحرب من خلال فاقدي الأطراف شاب في العشرينات من العمر يسير على مقعد متحرك بلا قدمين

كنت ارفع باقات الورد في شارع يزدحم بالخناجر

كنا في ليالي الصيف الساخنة نمسي على القمر الوسنان بينما كان البعض يؤدي تحية الصباح على المعسكر ويمسح أحذية الضباط الأجلاف

لم أسعى لنيل النياشين لأن نياشين الفشل كانت تملأ صدري

بعد شهرين أو ثلاثة من التدريب رموني في قرية السلمانية عبرت نهر كارون في الليل المضاء بقنابل التنوير ووميض القذائف كان القصف لا يتوقف خلال ساعات الليل تقريبا من الجانبين

كانت الرذيلة والخسة يتسامقان نحو القمة بتواتر ثم يتهاويان في هاوية لا نهائية

جرعة الرعب أتلقاها بشكل يومي

سائق تاكسي ارصد حركة المدينة بعد سنوات جلسنا في ذات المقهى التي قرؤ فيها البيان الأول وعلى ذات التخت لكن أخي كان يجلس بلا يدين



ـ لأضرب لك مثالا ربما قريبا من ذلك...

في مرة من المرات أوقف رجلا , رجلا آخر في عرض الطريق وسأله سؤالا مباشرا وواضحا عن الأشياء الصحيحة التي ينبغي على المرء أن لا يحيد عن أتباعها في دنياه

فرد الرجل بكل ود ولباقة:

((الأخلاق)) رغم أنه يعرف تماما أنه يعيش في عالم لا أخلاقي ثم زاد على ذلك:

الأمانة والصدق.. وعندما

سأله السائل فيما أذا كان يتبعهما قال:

ـ أنا؟ أكد الآخر (بنعم).. قال:

ـ بتاتا.. استحالة...لا يمكن تطبيق ذلك, العيش على هذا المنوال يتطلب زهد حقيقي بالرغبات وأنا رجل دنيوي مئة بالمائة والدنيويات يراد لها حيلا وأساليب

بهذا الصدق الفطري الذي كان يتمتع به ذلك الرجل أيقنت من أن لا يوجد صح أو خطأ في هذا الكون مفاهيم ومثل خارجة عن الإطار والسياقات العملية

ـ هل مازلت تتذكر كيف كانت حياتك قبل سفرك؟.. قالت على نحو مفاجئ:

ـ أتذكر تماما, كانت أجمل أيام عمري..

ـ لكم تغيرت يا شامخ؟.. قالتها وهي تحت ضغط اللم..

ـ كلنا نتغير..

ـ الناس يتغيرون باستمرار..

ـ هذه طبيعة الحياة..

ـ نعم..

ـ كلنا نتغير

ـ ربما..

ـ لا يوجد شيء لا يتغير فوق هذا الوجود..

ـ الأحاسيس الحلوة هل تتغير هي أيضا؟

ـ قد تخفت حلاوتها بمرور الزمن..

ـ بمرور الزمن..

ـ بمرور الزمن طبعا..وأرادت أن تعبر له عما كان يجيش في نفسها من مشاعر المرارة والحسرة لكن عارضا قد منعها فصمتت لعشر ثوان بعد أن أحست بشيء من الانفعال حتى عادت لتأخذ الحديث لجانب آخر..

ـ قل لي عن المنوال الذي كانت تجري عليه حياتك؟

ـ لم تكن تجري على منوال واحد كانت تجري على عدة منوالات..قال هذا مسايرا إياها بعد أن شعر بانفعالها

ـ لم أفهم..

ـ طيش, صخب,لا استقرار تشرد..

ـ يعني من هنا ومن هناك..

ـ بالضبط..

ـ حيث ما تكون المسائل تكون ها؟

ـ نعم مع الظروف..

ـ أكنت سعيدا وأنت تتقلب ما بين هذا وذاك؟.. سألته بلهجة جادة أكثر من سابقتها..

ـ لا السعادة في حياتي كانت دائما طيف عابر..

ـ أذن نحن متعادلان..

ـ في الربح أم في الخسارة؟

ـ في الاثنان معا في الربح وفي الخسارة وربما في الندم أيضا, سم هذه الأشياء كما شئت خصوصا أذا كان هناك من لديه الاستعداد لارتكاب عدد من الخطايا وتحمل عدد من الآثام..

ـ قبل ثوان تطرقت لهذه النقطة وقلت عما أذا كان يوجد من لديه القابلية والاستعداد على الغفران..هنا حاول أن يفلت من التلميحات ويرد عليها بلبس رداء الفضيلة والتدرع بلغة التسامح فتمكن بالفعل من التخفيف من حدتها وضغطها المتواصل فوقفت كلماته تلك حائلا حيال تطور الأمر بعد الأخذ والرد الذي كان يجري بخطى حثيثة صوب مجابهة مبطنة قد ينفجر شررها في العلن ويحرق بقايا المودة التي ما زالت تجمعهما معا..

ـ في بعض الحالات لا بد للنسيان أن يقوم بمهامه الضرورية..قالت ملينة لهجتها بعض الشيء,فأسترد أنفاسه صاحبنا وقال:

ـ الغفران هو أكثر الخيارات نبلا, هذا ما تعلمته بالفعل من العاطفة المسيحية..

ـ تعرف أو لا تعرف قلب المرأة هو الأكثر تقبلا لترجيح العاطفة..

ـ أعرف ذلك وأقدره في المرأة.. ويعد هذا فعلا كافيا لأخلاء السبيل لمن لا حول ولا قوة له.. استراحا قليلا بعد إبرام هذه الهدنة المؤقتة حتى أنهما صمتا بعدها أكثر من اللازم..

ـ لم تخبرني عن بشيء عن زوجتك البلجيكية..قالت مغيرة زاوية الموضوع لمائة وثمانين درجة فأستحسن منها ذلك قبل أن يتشجع لمواصلة هذا الشوط من الحوار..

ـ كانت امرأة ككل النساء..

ـ ألا تختلف بشيء عن العراقيات؟

ـ ربما بالمظهر وألوان الشعر والعيون ولون البشرة لا أكثر..

ـ واللغة؟

ـ واللغة بالطبع..

ـ هل كونت علاقات حميمة مع أناس تلك البلاد؟

ـ مع الرجال أم النساء بالتحديد؟

ـ مع الجنسين..

ـ كونت بعض الصداقات الطفيفة التي اتصفت بالحميمية, بالمفهوم الغربي للكلمة..

ـ ألهم مفهوما معينا لحميمية الصداقة بين الرجال عداها عن النساء أم أن في الأمر طوية أخرى أجهلها..استوضحته عن اللبس في هذا الأمر فرد بالنفي ..

ـ لا,لا تداخل المسألة بسبب نوع الحريات والانفتاح كما تعرفين لأن العلاقة بين رجل ورجلا آخر تنطوي على الكثير من دواعي الشك والريبة..

ـ هل الأمر ملتبس لهذه الدرجة بحيث يصعب التمييز؟..

ـ لا ليست لهذه الدرجة لكن تبقى العلاقات ما بين الرجال خارج أطر التعارف العائلي الوثيق مشكوكا في حيثياتها..

ـ عادات..

ـ نعم عادات..

ـ والعراقيين؟

ـ العراقيون هم العراقيين حيث ما كانوا حريصين دائما على نقل خلافاتهم وعشائرياتهم ففي بروكسيل نصبوا خيامهم وبدءوا بحد سيوفهم وباشروا حروبهم القبلية كنت الشرطة البلجيكية المعرفة بالصرامة تقف عاجزة عن فض بعض المعارك التي تدوم لساعات لا تنتهي الطلايب حتى بعد أن تتوقف المعارك ويتم التفاصل فيما بينهم حسب الأعراف العشائرية

كانت السماء تمطر أجاصا أبيض





حمى دالي قتلوه لانه مصاب بحمى دالي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق