على الكلمة الوهاجة نلتقي

زودونا باحساساتكم

السبت، 28 أغسطس 2010

اله على وجه عملة مزورة










محمد حسن





جزازات مدينة الغياب





رواية





حين بدأ صوت رنين هاتف البيت يضرب عاليا في أرجاء المنزل الهاجع في ريبة السكون وقلق الاحتمالات,كان الليل قد غمر المدينة بالظلام وغطى سماؤها التي كانت تخترقه بين الحين والآخر شهب الأسلحة النارية التي كان يلمض وميضها الناري وهي تتسلق كبد السماء الملأى بأضواء النجوم التي كان يشع بريقها رغم كثافة الغبار المتصاعد وتخر متهاطلة بعد أن تشهق عاليا خلف الليل ووراء لون الغبار المعشعش في الأجواء...

,كان الرصاص المتطاير يمرق سابحا في الهواء والقذائف التي كانت تفلت من عقالها وتظل هدفها تمضي بعيدا حتى تستنفد مدياتها وتنفلق بعيدا في عتمة الليل بعد أن تنطلق من هذه الناحية أو تلك وتتفرقع في لحم الظلام دون أن يستطيع أحد أن يحدد مصدرها أو يتبين الجهات التي تقف وراء أطلاقها سوى عزوها إلى واحدة من تلك الجماعات التي صارت تطحن بعضها بعضا وتتقاتل فيما بينها في الليل وفي النهار في البساتين وفي المزارع والحارات والشوارع والعطفات الضيقة وتترامى تلك العفاريت فوق أسطح المنازل لأسباب شتى تتراوح مابين أعمال السلب والسطو والصراعات الطائفية ومشكلات الثأر العشائرية التي تفشى وباءها مع تفشي أرضة الطائفية التي لاكت لحم البلاد وقضمت روحها وعظامها وقطعت أوصالها أربا, أربا

في تلك الأجواء الملبدة بالمخاطر والمحملة بالمفاجآت المريعة ترددت كثيرا وصال عبد الله قبل أن ترفع سماعة الهاتف الذي واصل رنينه لمرات عديدة وردت مجيبة:



ــ الو، قالت . مرة ومرتين وأربع

غير أن لم يرد عليها من الطرف الآخر غير صوت خشخشة تخربش في الخط وصوتا أشبه بنفخ مراوح هيلكوبتر تعبث دردمتها بصوت الخط وتزوبع بجلبة شديدة ثم يخفت ضجيجها قليلا ويعود بعد ذلك بصوت مسموم يدق على طبلة الأذن كما تدق أصوات الرعود الصاخبة..

كتمت غيظها وصدرت عنها زفرة وأووف عميقة، سكتت بعدها ثم

عادت بعد برهة انتظار تقول: الو، الو ،الو بصبر نافد ففاجئها انقطاع الخط من الطرف الآخر .رفعت يدها في الهواء بإشارة عبرت عن ما أحست به من امتعاض وسخط

أرجعت سماعة الهاتف إلى موضعها ، ونظرت للسقف الذي كانت تدور في فلكه ريش مروحة تلف حول رأس يشبه رأس ثمرة بصل كبيرة، نظرت للسقف بعينين تائهتين تلاعبت بهما دهاليز الاحتمالات وحمى الهواجس والظنون وأضنتهما سنوات الوحدة وسأم الانتظار...

جمعت أصابع يديها وضغطت بهما على صدغيها وحين أحست

. بشيء من الارتياح يتسرب لداخل نفسها أنزلت جبينها ودعكت عينيها براحة يدها وتمشت بكسل بين أثاث حجرة الجلوس, بذهن شارد وخطى مهدودة وبعد رواح ومجيء,لمحت عيني والدها تحدقان فيها من صورة كبيرة معلقة في أعلى الجدار ولحظت كذلك أنه لازال بهيا بعينيه المضاءتين بالذكاء وشعره اللامع الذي شذت منه خصلة صغيرة تقوست على منتصف جبينه وشاربه المشذب بدقة وعناية شديدة، رغم الطول الذي كان يتصف به وجهه إلا أنه كان يتحلى بالكثير من الجمال، عليه جاكت أسود , تحته قميص سكري اللون مخططا بخطوط طولية رفيعة السمك شكلها لا يشذ كثيرا عن اللون السكري، ورقبة أنيقة المنظر تشمخ فوق ياقة زرقاء من الخارج غير مزررة ولا تغطيها ربطة عنق بل أن حتى الزرين العلويين لقميصه محررين وينفرج من خلال مكانيهما مثلث الصدر الذي يكشف عن رقبة جميلة يزيد من بياضها ضوء كاشف الكاميرا الذي ظل مشعا رغم تقادم السنوات. . .



اجتذبها ارتخاء ضوء الحنين واستدرجتها ذكرى خوالي الأيام بجاذبية وهجها, فدلفت بشكل آلي إلى حجرة النوم حيث تختبئ في خزانة الملابس علبة كبيرة تحتوي على الصور القديمة، صور أفراد العائلة الذين شذب الموت وجودهم، مثل شارب والدها..

فتحت غطاء العلبة المعدنية المزخرف إطارها بألوان بنفسجية ووردية جميلة

تحيط بصورة لفتاة صينية وجهها الصبوح كان يشع بابتسامة باهرة وعينين جذلتين يشتبك وهجهما مع الضوء الساطع الذي كانت ترسله ثمانية مصابيح تتدلى من ثريا معلقة بذراع جنكال معقوف ومعلق في وسط سقف الغرفة الجبسي..



طالعت رزمة الصور التي كانت بين يديها وبدأت تقلب في البعض منها على القفا .. لتقرأ التواريخ بصمت مطبق وتستنهض مخيلتها وتحثها على النبش في الجزء الحي من ذاكرتها , لتستدل بواسطة التنقيب والبحث عن أسماء الوجوه التي محل شكلها ..

ــ هذا أبن عمي (همست لنفسها بصوت خافت وبشيء من الدهشة كمن عثر على لقية نفيسة) الذي ذهب للدراسة في فرنسا ولم يعد، وهذه صديقتي التي هجرت البلاد منذ سنوات, وهذه صورة أخي الذي وجد مذبوحا في زقاق من أزقة الكرادة جزوا رقبته الخنازير أمام مرأى العامة بدم بارد ومضوا دون حسيب أو رقيب ... و (سألت نفسها بألم وحسرة بعد أن تراءى لها مشهد القتل)

ــ يا لها من ميتة فضيعة يا وحيدي،

ـ يا ويلي .. صاحت بصمت ممزق ودفين وكأنها تستنجد من خطر داهم , وقامت بإغماض عينيها بعد أن أخذت نفسا عميقا ثم شبكت أصابع يديها على قبة رأسها وسهمت قليلا في بحر مصائبها قبل أن يعيدها إلى الواقع( صوت عيار ناري ومض ضوءه من خلال النافذة بعد أن تناهى لسمعها صدى صوته من خلال الليل).. فوجدت أخيها, يشترك بصورة أخرى مع خطيبته التي لم تعد تعرف شيئا عن مصيرها ، ثم عثرت له على صورة أخرى يقف فيها هو وصديقه تحت نصب الحرية بثيابهما الأنيقة وشعورهما المنسدلة حد الأكتاف وكلاهما ملقيا ذراعه على كتف الآخر بود وحميمية ..قرأت التواريخ والاسمين مدونين بخط أنيق على ظهر الصورة مع كلمات كتبت بشكل مبتسر عن الذكرى، تذكرت كذلك ملامح ذلك الشاب الأسمر الغامض والصموت وشارد الذهن في بعض الأحيان الذي لم يكن يجيب على الأسئلة التي تطرح عليه إلا لماما الذي شدها بحزن وجهه الجذاب ونبرة صوته الرقيقة فأحبته وأحبها , خلال زياراته المتفاوتة لدارهم بصحبة أخيها , حتى مكالماته المتباعدة من باريس التي وصلها بغرض الدراسة حسب ما زعم قبل سفره وردت هي على البعض منها قبل أن تنقطع من جانبه بشكل نهائي ، تناولت صورة أخرى لأخيها , ثم أخرى عجزت عن التعرف على الشخص الذي كان يقف فيها تحت ظل شجرة يوكالبتوز باسقة...

غمرت روحها غيمة من الألم فبرقتا عينيها بضوء حزن خافت وتندتا بلمعان قطرات مياه الأسى الساخنة حين رأت وجه أمها يرسل نظرة متعبة تحمل سقما خفيا وجليا , في ذات الآن, كان ذلك قبل موتها بأشهر وهي تبدو بثياب الحداد. هي وحدها تعرف أسبابه وبواعثه وهي تدرك تمام الإدراك عمق ظلال ذلك الكدر المخيم على ملامح الوجه الحبيب, وهمهمت دون وعي بصوت مختلج يكاد لا يسمع:

ـ هذه أمي التي كان لرائحتها فعل السحر ولوعة العذاب المشوق في نفسي... آه لو يتاح ألي التلاعب بالأزمان وأحضنك مرة واحدة.. مرة واحدة فقط ولأفنى وأتمزق بعدها وليرمى بي للكلاب الشريرة ولتنهشني بأنيابها وتلوكني كما تلوك ذئاب الغابات المتوحشة لحم فريسة مال حظها فوقعت بين أفواه وحوش لا ترحم! ..

لو رضيت مني قوى الغيب افتراضاتي العبثية هذه لمضيت على الفور في تنفيذ كامل بنودها وللبيت دونما أي تأخير كافة شروطها ..



في ظرف مدة وجيزة من الزمن .. أشهر, بل على وجه الضبط ما هي إلا أسابيع, ثلاثة أسابيع أو أربع لا ترقى بحساب الأيام وعددها لتتم شهر, خسرتكما خلالها على حين فجأة ومضيتما معا في غياهب الغياب, وبقيت وحيدة أعيش على أمل أن تعودا, أن يكون غيابكما وهما من الأوهام وأنا أترجى ظل من ظلالي وأقول لعله خطأ ، خطأ ربما سيصححه الله ويعيدكما ألي

لكم حرثت ذاكرتي في خضم هذا التيه المتشابك وتوهمت وهي تمخر في مياه الأحلام بحثا عن أشارات وأصداء تأتي من وراء الظلام

في كل ليلة من الليالي التي هيمن علي فيها النوم بمغشياته الرخوة وجانبني فيها الصواب وأختلط لدي فيها الشك باليقين, كنت أحلم بأنكما مازلتما تمرحان في أروقة الدار تلهوان وتمزحان معي في حديقة البيت وتملآن أفنية المنزل بالبهجة والمسرات , ثم تختفيان فاصحوا على ربكة فراركما كطائرين بريين وجلين فرا بلهوجة دون أي سبب واختفيا سويا كأنهما انبثقا من رحم العدم أو جاءا على سرج وهم من الأوهام , كان للتو يجهر بحقيقة أطيافه ويهمس فوق رمشي كذكرى تفوق النسيان وتبدو عصية على البطلان فتجتر روحي من هواؤها ما بقيا من تلك الوجوه التي غدت صورا مجرد صور باهتة الملامح محض كواغد تأبى أن تعود إلى الواقع وتصبح من لحم ودم

لتسهم بتبديد وحدتي وتزيل شيئا من ركام كدري بوجودها الفتان ..

ذلك الوجود الذي إذا ما استعاد حقيقته فمن شأنه أن يزيح عن كاهلي الكثير من الهم ويخفف عني الكثير من العناء وينتشلني من الوحشات القاتلة, لكن كيف للمسرة أن تمكث فوق قشرة جلدي أكثر من برهة تغشني بزيف هيمنتها القشعريرية وتتبدد بغفلة مثل شبح شكسبيري شديد الشكيمة والدربة

لم تمهلاني وقتا كافيا لأملأ رئتي من هواءكما الذي تبدد مثل نسمة باردة في صيف ساخن وغطستما مثلما تغطس حيل الفنتازيا السينمائية في عين كاميرا مدربة ترمي التقاطاتها السريعة في هوة ظلام لا قرارة لها, فأجد نفسي أخرج من براثن حلم لأدخل في أتون حلما آخر تستدرجني صوره الملونة البراقة وهي تتطاير بارتخاء بين أمواج من ضباب كهربائي يضج بتداخل الأضواء وتعاكس وهجها المدهش في سموات الليل وعجول ظلامه الهائجة تناطح فراغ الدجى, ثم تنطفئان, من جديد فيظلم الكون على عوالقه المتلاشية وحطامه , فتستسلم روحي الخائبة لخلطة مدمرة من أعشاب اليأس ومشتقات بواعثه المؤلمة فألفي نفسي غارقة في بحث مضن آخر.. وهوس جبار يتجاذبني بأذرعه الأخطبوطية ويدفعني للركض بخبل وهمجية تجعلني أتعثر في وحل صمغي أو أغطس في حقل من حقول السيكوتين السماوية وأنا أطير وراء ظليكما اللذان تفتتا من بين خلايا وجودي الممزق المتبدد مثل خطى للتو كانت تنطبع بأقدام آدمية فوق هشاشة الرمل الأملس وتنمحي تماما بعد أن يغمرها الموج المتدحرج أو تهب عليها الريح العالية وتكنس أثرها من وجه الأرض كما تكنس الشمس غبار الضباب..



وبعد أن تكل الأحلام مني وتتبدد تهيؤاتي وتضمحل أحلامي وتضعف حججي الواهية جميعها ،أتيقن أن الموت باطلا وأن كل ما كان يطفو ويتحرك فوق سطح هذا الوجود الأعمى الذي يتصارع فوق حلبته القتلة والسفاحين ما هو إلا محض .. أوهام وأباطيل تتبدد كما تتبدد حبات غبار الصيف وتدحرج منزلقة عن أوراق الأشجار بعد أن يأتي عليها فوران المطر ويتكفل بغسلها وأزاحتها من الوجود...



كيف لي أن أعيش بعد غيابكم كما كنت أعيش من قبل ، هل لي أن ألبس ثيابا زاهية الألوان وأخرج بها للشوارع أو أمضي لسوق ارخيتة ومحلات السبع قصور أو أذهب بعيدا لشارع النهر عبر السعدون وأمر بشارع الرشيد وأتبضع من ما تعرضه محلاته من ملابس بموضات وصيحات حديثة و كيف سأقدر على الدخول إلى الأسواق المنضوية تحت ظلال سقوف قديمة تغطيها الصفائح المعدنية التي كثيرا ما يتحرك تحتها الناس المريبين وألج إلى سوق دانيال القديم وأقتني ما ياستهويني من أكسسوارته وعطوره الباريسية الفاخرة وحاجياته ومعروضاته المتنوعة الكثيرة,كيف يمكن لي أن أبتاع ما أريد وارغب بابتياعه من أشياء.. وأن حدث ذلك فرضا فلمن يا ترى سألبس الفساتين ومن أجل من سأرتدي أحذيتي العالية بكعوبها الأبرية الرفيعة التي تتطلب مني السير بخطى حذرة خطى تلفت الانتباه بفتنتها الأنثوية, كيف لي أن أتجول بها في العرصات الهندية وفي أسواق الكرادة داخل أو في شارع الكرادة خارج الذي كنت اذرعه من التحريات حتى ابلغ نهاية الجادرية مثلما كنت أجوب وأفتل في شوارع المدينة كل يوم خميس بعد الدوام كنا أنا ورفيقاتي في مدرسة الإعدادية الشرقية للبنات نقوم بتلك الچرخلة الأسبوعية( كما كانت تطلق عليها صديقة طفولتي صباح قاسم التي شملها الاجتثاث الطائفي فنزحت هي وأسرة زوجها إلى المجهول)حياة كان فيها للتلاقي والتجوال طعما ومذاقا وبهجة والسير في عصريات أيام الصيف الساخنة بجانب دجلة والتجول في الأسواق والالتقاء بالأقرباء والأصحاب في نادي التعارف أو نادي الصيد أو نادي الفروسية أو مصادفتهم في أيام التسوق في بوليس خانة كما كان يحلوا لنا نحن الكراديون أن ننعت أورزدي باگ الذي كان يجلب لنا كل ما هو جديد من أحدث ما ينتجه ويبتكره العالم المتقدم من بضائع حديثة..

من أحذية وملابس إنجليزية وصحف بريطانية وفرنسية أعتدت بعد دخولي لكلية الآداب قسم اللغة الفرنسية على اقتناء الـ ليموند والـ فيغارو الصحيفتان الأكثر شهرة وذيوعا في فرنسا, حياة كان فيها من الحيوية والإثارة والدهشة ما يعجز المرء عن الإلمام بكل تفاصيلها , حيث أنني كنت في أماسي الصيف،أغني كما كنت دوما أغني مع صوت أسمهان , و أنوار عبد الوهاب أو حين أنسى نفسي وأنا جالسة على سطح الدار في ليالي الصيف الساخنة حين كنا نجلس سويا بلمتنا العائلية تحت ضوء القمر الوسنان وتحت أضواء النجوم التي كانت تشع أضواؤها في ليل سماءنا ونحن نقضي سهرتنا حتى منتصف الليل جالسين على المقاعد البلاستيكية البيضاء, نشرب عصائر جبار أبو الشربت اللذيذة المذاق أو نأكل أشياف الرگي والبطيخ الباردة أو أننا نحتفل بحميمية عائلية بتناول بعض من مرطبات مشمشة التي كان يجلبها لنا أبي بعد عودته من العمل تحت قبة السماء المفضضة بألوان النجوم المشتعلة

وكنت أغيب في عوالم الحب والأحلام اللامتناهية وأنا أتماهى بعد أن اغرق في سموات نجاة الخلابة وأطير محلقة فوق الغيم بصحبة صوتها الحالم السكران الذي تسيل منه مشاعر الحب وتجري منه لوعة الأشواق جريان الدم في العروق,

بإحساساتها الرخية والمعذبة.. وكنتم تصفقون لي بحب وتشجعونني بحماس زائد وتحثونني على مواصلة الغناء وترجونني أن ارفع صوتي قليلا وانتم تتمايلون طربا على تطاولات صوتي الفتي بعفويته وتلقائيته وهو يتوق للتقليد وتقمص الإحساس وكنت أتوقف مبهورة تحت نير فزعي الطفولي وصمتي المشكك يتفحص بريبة ووجل ما كنتم تقولونه من كلمات ملأى بالثناء والإعجاب

كونا على يقين تام أن الحياة قد أصبحت بلا قلب بعد أن فرطت من دون أي ثمن أو مقابل بعدالتها, حين آثرت غيابكم..



لم يعد العيش فيها يعني بالشيء الكثير بالنسبة لي كل حيواتها أضحت لا تعادل حفنة من التراب الذي يغطي عظامكم حتى ولو بمقدار ذرة أو مقدار قيراط ..

كل شيء في هذا الكون كان قد فقد قيمته وفقد معناه...فبدونكما شاخت الأشياء وتعطلت وظائفها, ترهل كل ما من حولي ، من أثاث البيت إلى جدران المنزل القاحل الذي أمسى كمقبرة مهجورة ,الناس والحياة والكون بكواكبه وأعشاش نجومه المنظورة وغير المنظورة حتى شجرة التوت الوحيدة التي كنا كل صيف نأكل من ثمار توتها ونجلس في أوقات العصر تحت ظلها الوارف لا أدري ما أصابها, فقد اعتل جذعها على حين فجأة وانكمشت أغصانها على نفسها ولم تعد تثمر مثلما كانت من قبل .. حتى أثل الحديقة الصغيرة الذي لم يصدف من قبل أن بارح لونه زهو الاخضرار اليانع هاهو ذا قد أصابه التلف وتلبسته ثياب الشيخوخة وأصفر شيئا بعد شيء حتى شابت رؤوسه وتيبست أطرافه تماما ، حتى مصابيح المنزل , ذوت أضوائها وغرف الحوش قد تجمدت زواياها وسقوفها, البيت الذي أمضينا فيه الوطر الحلو من أعمارنا , قضينا تحت ظله سنوات طويلة من حياتنا ، لعبنا وجلسنا ، نمنا وحلمنا بالأشياء الرائعة وبما سنحققه منها في المستقبل وفي قوادم الأيام ، ضحكنا وبكينا في فلكه..وبسبب هذا الغياب القسري اللعين أمسى الآن مثل مكعبات العاب فقدت أطرها ومكملاتها ، بيتنا الذي كان دائم التوهج بوجودكم , أضحى الآن كقبر هائل وظل مهجور لأثر قديم , خاويا تماما إلا مني ومن وجوه الأشباح المشوهة التي تطوف من حولي في ليلي وفي نهاري وبات لا يختلف كثيرا عن أي هيكل عظمي لحيوان منقرض في عصر من عصور ما قبل التأريخ.

ترن ، ترن ، ترن ، ترن أفزعها الهاتف برنينه هذه المرة فجرت من فورها بخطى سريعة

ـ الو. قالت: بعد أن رفعت السماعة بخفة متناهية

ـ الو مساء الخير . جاءها صوت رجل مجهول لكنه يتكلم بثقة عالية وتبدو على صوته الصحة والرصانة..



ـ أهلا مساء الأنوار, من على الخط ؟ قالت: بنبرة رسمية ,رغم أن الخط كان مشوشا,ولم تستطع التعرف بشكل أكيد على صوت الشخص المتصل.

ـ أشلونك وصال . قال ثم خمن بشيء من الشك حين وجدها لم تستجب بسرعة )هذا صوتك أذا لم أخطئ ؟ عقدت حاجبيها وقالت

ـ أجل وصال . . أهلا .. وسألته مستفسرة بلهجة حذرة..

ـ من حضرتك ؟

ـ أنا شامخ ..لكنه أحس على الفور بأنها لم تفهم على وجه الضبط فقال بصوت أعلى ..أنا شامخ.

ـ عفوا..من قلت؟

ـ شامخ عبد الوديع..صاح في سماعة الهاتف بصوت عال حتى كاد يشرخها..

ـ لا يمكن.. ردت مستنكرة..ساد صمت قصير أملاه نوع المفاجأة . قال بعده بلهجة عاتبة:

ـ أنسيتني يا وصال..؟ وفي هذه اللحظة وضعت يدها على قلبها وقالت

ـ يـــــــــاه شامخ... قالتها بكثير من الدهشة وعدم التصديق الذي كانت سببه هذه الفرحة المباغتة ثم تساءلت وهي لم تزل غارقة في بحر لا يستقر موجه ولا يهدأ كيانه... شيء لا يعقل ولا يصدق وفي هذا الفترة العصيبة؟..

شيء غير قابل للتصديق حقا..أحقا أنت؟.. أأنت يا شامخ ؟سألته: وهي تحت تأثير هذيان الدهشة ومباغتة الفرحة بعد أن ظنت في سالف أيام ترجياتها بقوى الغيب أن تجود عليها السماء بمخابرة تليفونية أو برسالة بريدية أن انقطاعه عن التواصل معها لسنوات طويلة ما هو إلا انقطاعا تاما عن مواصلة السباحة في نهر هذه الحياة التي لم يألف العراقيون فيها شيئا أكثر من سرطان الموت الذي ظل يفتك بهم على مر الأزمنة وتعاقبها.

ـ اللعنة على هذه الحياة يا وصال .. قال .. هو أنا , هو أنا بالتأكيد يا عزيزتي.

عاش من سمع صوتك... أجابت بشيء من الغبطة الممزوجة بالألم..

ـ والله تعرف أنا لحد الآن ممصدگة أني دا أسمع صوتك هسة بعد كل هذا الغياب الطويل لم أكن أتصور هذا الشيء قبل هذه اللحظة أطلاقا آخ لو تدري أشصار بينا عليك كلنا والله أنا وأمجد والوالدة, والله مشتاقين والله جدا,جدا.. بس أين رحت كل هذه السنين كيف نسيتنا بهذه السهولة يا شامخ.. أرادت أن تعطي الحق لنفسها وأن تعاتبه على تلك القطيعة التي ترى من جانبها أنه لم يكن هناك من مبرر لها والتي من حقها من الآن فصاعدا أن تعدها فرارا حقيقيا لا يليق بفتى كان في يوما ما متربعا على أفنية القلب ودهاليزه أن يتشح بثياب الغياب ويفر بعيدا من هوى المحبوب..لكنها استدركت من أن من الحمق أن تضعه في موقفا دفاعيا يتنافى مع الذوق بعد كل ذلك الغياب الدهري فأحجمت عن قول المزيد في هذا الشأن وانشغلت بتفقد الأحوال وتبادل التحيات وقالت مغيرة نبرتها..

ـ لكن دعنا الآن من العتب وقل لي ..اشلونك أأنت حقا بخير وبصحة وعافية؟

ـ أنا بخير صدقيني وأتحدث معك من هنا من بيت أختي أم عبلة في بغداد..

قلت أنني نسيت !.. والله يا وصال لم أنسى تفاصيل تلك الأيام على الإطلاق ..لم يحدث شيء من هذا القبيل بماذا تريدين أن أحلف لك بأي قسما تريدين أن أقسم أليك يا وصال صدقيني, لكن الظروف هي التي لم تمنحني الفرصة ولم أحصل على استراحة قصيرة أو حتى على برهة بعد أن غادرت بلدي لم أجد غير شلعان الگلب وسلبان الراحة وكأن الله قد خصني بالمعاناة المتواصلة دون سائر البشر, سنين طويلة وأنا أواصل الركض في أرض الله الواسعة دون أن أصل لشيء يذكر, صحيح أنني قصرت معك كثيرا... وهنا شدد على كلمة (معك) وأراد أن يجعل منها جسرا يعبر بواسطته عن اعتذار وأسف مبطن ثم خلط الأمر وجرده من خصوصيته حين أردف قائلا: ـ أنا مقصر معكم جميعا حتى مع أهلي وبقية أصحابي الآخرين ..



ـ علمت أنك قد انقطعت عن الجميع لذلك خفنا عليك في أول الأمر كثيرا من نوائب الدنيا, لكن حين طالت المسألة وبلغت الحد الميئوس منه سلمنا أمرنا لله وحسبناك بكل صراحة قد انتهيت في نهاية من تلك النهايات الدرامية المجهولة..أقول هذا بأسف شديد... لم يدر في خلد أحد من الذين تعرفهم والذين لا تعرفهم أن ظرفا أو مجموعة من الظروف والتعقيدات أن تقف حائلا حيال المراسلة والتواصل حتى الرسائل البريدية كنا نبعثها لك ولم تكن ترد عليها

ـ لم أكن أستلمها, الرسائل لم أستلمها..

ـ لم يكن من السهل تجاهل الجميع ونسيانهم على ذلك النحو المثير للعجب..

ـ المسألة ليست مسألة تجاهل أو نسيان المسألة مسألة ظروف مانعة..ظروف لا يمكن مقاومتها أو التحكم فيها, لفترات طويلة وأنا..وهنا تنهد بانفعال لكنه سرعان ما سيطر على نوازعه وقال:

ـ لنؤجل الحديث عن ذلك, لكن رغم هذا دعيني أعبر لك عن أسفي أنت تعرفين حين يغدر الوقت بالواحد منا تستغرقه الغفلة لوقت أطول من المعتاد حتى يتنبه بعد فوات الأوان أن التباعد قد أحدث شرخا يصعب أصلاحه أو معالجته حينها يستسلم المرء على مضض إلى التماهي مع القطيعة أو النسيان كما أسميتيه فأنا بكل المقاييس مدين لكم جميعا بالاعتذار والأسف لما بدر مني ولك تحديدا ومستعد أن أتحمل كل ما ترتئينه من أكالة التقريع والإدانات التي ترين فيها تعويضا أو ردا لاعتبار..



أربكها اعتذاره الصريح هذا وفتح شهيتها في ذات الوقت على استكشاف ما كان يكمن وراء تلك الغيبة المديدة التي لم تجد لها تفسيرا أو تسمية فلم تهتدي إلا قول بضعة كلمات هروبية خالية من أي معنى تفوهت بها فصبت دون أن تدري في مجرى الكلام العام الذي يحيد عن أية وشيجة أو ضرب من ضروب الخصوصية..

ـ لا الحمد لله على سلامتك... المهم كيف أنت الآن , شنو أخبارك بعد كل هذه السنين الطويلة ؟

ـ الحمد لله ..

ـ قولي لي اشلونكم وسط هذا الخراب والأهوال, أخبارك أنت, أخبار الأهل, و العزيز أمجد بالطبع ..ألم يتزوج أم أنه مازال أعزب؟ آه لو تتخيلي حجم قلقي عليكم في هذه المأساة اليومية التي تبثها القنوات الغربية,لا يمكن أن تتصوري كم افتقدته وكم اشتقت أليه لم أجد صديقا بمثله لا في البلد ولا في خارجه وظللت طيلة سنوات غربتي بلا صديق حقيقي تقريبا صديق يمكن أن اعتمد عليه ,بشكل فعلي في الملمات أنه من الأصدقاء القلائل الخلص في هذا الزمن آه يا أمجد كم كنت أقولها وأنا وحيد في ليل الاغتراب حين تشتد علي الشدائد وتضيق بي الضوائق أنه من معدن يصعب وجوده وتعويضه ؟

ـ أنه بالفعل يصعب تعويضه.. قالت بلهجة ساهمة.

ـ أهو في البيت أم أنه في الخارج ؟ سألها فسكتت في أول الأمر ثم قالت:

ـ أمجد ؟ .. سألته باندهاش بعد أن مسها الشرود بميسمه.

ـ أجل .. هل هو في البيت أم خارجه أم أنه ؟ )أحست بصبرها ينفد لأن السؤال ينكأ جرحا غائرا في أرهف بقعة من بقاع النفس ولم يتسنى له أن يأخذ كفايته من الوقت ليبرأ ويشفى تماما, فسألته بمباشرة وبردة فعل لا شعورية لم يعهدها منها من قبل... قالت:

ـ أتعني أنك تريد أن تقنعني بأنك لا تعرف بما حصل له..؟فأربد وجهه ورد مغمغما باستياء وبصوت مهرهر بعد أن أحس أن مشاعر الاحترام قد أصابها شيئا من العطب

ـ بالطبع لا ومن أين لي أن أعرف أنت تدرين أن أخباركم منقطعة عني منذ الاتصالات الأخيرة التي أجريتها معكم بعد سفري, وأنت تعلمين كذلك أو لا تعلمين حتى أهلي قد انقطعت عن الاتصال بهم في نفس الفترة التي انقطعت فيها عنكم بل بالأصح أنقطع اتصالي بهم قبل أن ينقطع بالآخرين بكثير هذه هي الحقيقة..

لكن ما الأمر سؤالك يكاد يشلني قولي بسرعة أرجوك..

ماذا حدث الله أيخليك ؟ قال هذا بينما راح وجهه يعبر عن رعب متزايد

ـ كنت أظن أن كل الناس قد علموا بما جرى له كيف لا وصوره قد ظهرت في التلفزيون وأسمه قد نشر على صفحات الجرائد اليومية لأنه كان من بين ضحايا الصحافة..

ـ كيف يعني أنت تقصدين أن الـ؟ لكنه في محاولة السؤال أو الرد عليها تلعثم بعد أن تبخرت من ذهنه الكلمات وأخذ صوته يخفت رويدا ,رويدا حتى غدا همسا

ـ إلا تدر..؟سألته

ـ لا..

ـ أمجد البقية في حــياتك يا شامخ..

صعقته بتينك الكلمتين المروعتين,وأثارت سخطه واستنكاره معا , بلهجتها المهدودة التي لم تفضي إلا لمزيد من العتمة ومزيدا من الألم تغطت بهما سماؤه الشعثاء التي اصطبغت بوشاح من اليأس النائي الذي أوحى له بأنه آت من قارة جليدية بعيدة عن مجرة الشمس أحرقها الثلج وأعمى ملامحها وشاح الضباب, فحال ضباب ذلك الوشاح المعتم بينه وبين الوقوف على شيء يقيني لا يقبل اللبس , فرفض تصديق ذلك بصوت صار أجشا بعد أن هزته رعدة المفاجأة هزا عنيفا كما تهز الريح المباغتة أغصان شجرة خاملة وصاح بصوت رافض ومستنكر كمتهم يرد عنه تهمة ملفقة..

ـ كلا ..كلا , لا يمكن ! لا غير صحيح ، فردت عليه بلكنة شابها الاضطراب والأسى تنم على أن هذه هي الحقيقة

ـ هل تصدق يا شامخ .. نعم .. هم.. هذه هي الحقيقة.. أكدت له, فنزل عليه هذا التأكيد الذي لا يقبل الشك , كضربة سوط أو لطمة عنيفة على الوجه, حجب عينيه المشتعلتين بنيران الألم خلف راحة يده التي كانت ترتجف من شدة الانفعال , وتوسل بها يائسا..

ـ قولي شيئا آخر أتوسل أليك.. يا.

ـ للأسف تلك أشياء يتعذر دحضها أو إنكارها يا شامخ كما أنها لم تكن تلك المصيبة الوحيدة التي وقعت على رأسي, كانت هذه واحدة من سلسلة الكمائن والفخاخ التي نصبها لي لؤم الزمن على أثرها بدأت طبولي تتهدج بصوت ناحب وأيامي تغص بالصمت وتشهق بالأنين والألم, رغم أن كل واحد منا نحن العراقيين كان يبكي بطريقته على أحبته وعلى موتاه

كان هناك من يشق الزيج وهنالك من كان يتلقى الطعنات برحابة صدر أسطورية ويموت بشرف على مقصلة الوطن الخائب, أما نحن من بقينا على قيد الحياة

فلم يكن أمامنا من بد إلا التمسك بالتقاتل والتصارع والنحيب على الأعزة الذين أريقت دماءهم هباء وسدى لعيون الوطن الدامية, حياتنا ظلت تتأهب بشكل دائم لتقبل رصاص المجهول والتفخيخ والطعن من الخلف

ورش المارة بالرصاص بشكل شبه يومي والخطف والتهجير والطعنات الشاملة والضغائن التي يبدو أن لا حل لها في الوقت الحاضر ..



على ذلك النحو كانت المنايا تطاردني.. ووسط هذا النوع من الاحتضار الدائم والوحشية المفرطة ..

كانت حياتي تتسربل صوب الحقائق الأشد بشاعة والأكثر فظاعة وتحطما وإيلاما..



ـ آه لو تعلم بما حدث لنا بعد أن وقعت الفاجعة وكيف تبعثرنا في لحظتها كم تمنيت أن يأخذ الله أمانته ويمحقني قبل أن أرى كل هذا التشنيع والصلف من الحياة وغدرها وهذا النوع من التنكيل الذي اضطرتني صروف هذه الدنيا وتعسفها لشرح حقائق لا يعادل حقيقتها ألم الكون بأكمله.. لكم يصعب علي أعادة شرح تلك, الفظائع التي كانت أشد مرارة وعلقمية من سوائل السيانيد القاتلة..

فضائع ومصائب يتوجب على المرء أن يكتفي بطي صفحتها وسط خراب يتراكم باضطراد فوق بعضه مثل كريات الثلج التي تتهاطل بكثافة لتكون أكواما وتلالا من البياض الصافي الذي ينقلب في سمواتي إلى رماد ومزابل وجيف ودموع شديدة الملوحة. لا أدر عن أي ملابسات أفتش وعن أي مصيبة من المصائب أحكي...

أأبدأ بالعراق الذي كنا نحلم بصحرائه أن تخضر وتتلون بالورود وتعمر بشجر الخوخ والرمان وفسائل العنب لا أن تتحول إلى حقل للقمل وللمآسي التي أتت بها العمائم التي بدل أن تنتشل النصف الغارق من البلد أغرقت النصف الآخر فانتهى كل شيء بعد أن أمسى الكل يلعق بجراحه أأطيل في سرد هذا أم

أم أني أكتفي بتقليب ليل العائلة والاكتفاء باجترار ذكرى الأهل والنواح على الأخ الذبيح والأم التي شحبت ملامحها وضعف قلبها وماتت بعد موت أبنها...



وهنا أراد أن يقول لها أنه لم يصله كل الكلام الذي قالته عن الأخ والأم بعد أن قامت رداءة الخط ببتر معظمه لكن لم يحصل شيء من هذا فاسترسلت:



00 ربما ذلك صحيحا مائة بالمائة حين يشتد الظلم وتتعاضد الشدائد يزدادون الأعزة عزة والأحبة حبا وبلايا الآخرين تخف حدتها حتى أنها تتلاشى حين يقع البلاء على واحد من هؤلاء الأعزة فما لي ومخلوقات هذا الكون فليحترق على ما فيه طالما طالني شرره

بالطبع أحكي في هذه اللحظة عن أخي الذي فقدته في هذه البلاد المثيرة للسخرية والتندر والدموع التي أضحت مهزلة وهزوة للهازئين من البدو والرعاع والسقط..



ـ لماذا ؟وكيف؟ وأين؟.. اصطرعت أنفاسه وهو يطلق هذه الاستفسارات اليائسة حتى كأنه سيشوى ويصطلي مثلما تصطلي أشجار الجوز المتيبسة بنار العواصف الضارية.أحس بملايين الفيروسات تجتاح خلاياه فتعطبها وتعطل كل جزء حي من أعضاء جسده التي صهرها الألم والأوجاع التي هجمت عليه بغتة ورضرضة عظامه ونعنعته بالكامل ..

كل شريان من شرايين جسده كان يتمدد تحت طائلة الغضب مثل أنبوب مطاطي متراخ ليفسح المجال لحمم غضبه وأوجاعه لكي تندفع وتتدفق بكامل طاقتها في كامل بدنه المشحون بالجزع والألم والخيبة لتزيده لهيبا واحتراقا حتى لاح لون وجهه على صفحة الضوء الكسول الذي كان يجود به المصباح المعلق بالسقف وهو يتحول بين رمادي باهت وأخضر فاقع ..

اغرورقت عينيه بالدموع وكان على أعتاب أن يستسلم لنوبة نواح صاخبة ومتفجرة ,غير أنه لمس من خلال نبرتها المحطمة صدى اليأس وشساعة العذاب الذي تسرب إلى سمعه, فأضحت المسألة من وجهة نظر متعقلة أن لا نفع يرجى من الإصرار على المضي بفتح جرح قديم والإيغال في أثارة ذكرى أليمة قد فات عليها الكثير من الوقت, ومن شأن فتح سريرتها مجددا أن يذكي ذلك وجعا وحزنا في نفسها لا أحد يدري عن مدى تأثيره,فتجرع الصمت وهو يغص بمرارة الألم وتجالد على ما حل بصديقه الوحيد من مصيبة.. وبحنكة من خبر المآسي وأعتاد على نائبات الزمن ..

ردع موجة المشاعر التي اجتاحته وكفكف أحزانه بجلد من يمسك على الجمر المتوهج براحة يده الغضة, فصدرت عنه.) ـ آآآه آه...متقطعة وطويلة

ـ خسارة كبيرة يا وصال..قال وهو كمن يستجلي الأمر ويظهر رصانة العاطفة أمام المحنة..

ـ بل أنها خسارة فادحة) قال بأسف بالغ وبحسرة شديدة فأحست بتأثره العميق وبصدق مشاعره الجياشة فأجابته مبينة..

ـ قبل أكثر من سنتان.وجد مقتولا على الطريق..

آه لو أنك تستطيع أن تتخيل لحظة بلوغنا ذلك الخبر المشئوم كيف هرعنا كمجنونتين أنا وأمي نركض بخبل بقلوب محطمة, وبشعر مشعث فاقدتا الصواب نجري في عرض الطريق لاهثتان دون وعي ونحن حافيتين على بلاط الشوارع..



أقشعر بدنها وأنهد حيلها وهي تستذكر مشاهد تلك الواقعة الأليمة

أعاد عليها السؤال مرة أخرى لكن هذه المرة بلهجة من سلم للأمر الواقع

ـ طيب كيف حدث ذلك.. يعني كيف ؟ .. ووو )أراد أن يقول شيئا آخر غير أنه كان مضطرب الذهن ولم يفلح في لم شتات أفكاره وأراد أن يواصل كلامه لكن وصال لم تسمح له بذلك فأجابته حتى لا تدعه يسترسل في التخبط والتأتأة وقالت بصوت ناحب .

ـ ذبحوه يا شامخ..نحروه نحرا الخنازير يا شامخ.. وابتعث ما قالته شيئا من الدموع في عينيه.

ـ يا ويلي..الأنذال.. لكن ليش؟ صاح الرجل مستنكرا, بعد أن ضرب جبهته بقبضة يده وصرف على أسنانه حتى كأنه سيحطمها في داخل فمه وأغلق عينيه

ـ هذا ما لم أفهمه.) لم يفقه شيئا مما قالته ومما كانت تقوله , بعد أن أحس بسهم بارد يضرب نخاعه الشوكي فأستسلم كالملدوغ لسائل السم اللاذع ومفعوله المخدر تحت هول دموية مشهد الذبح الذي انحشرت صوره الافتراضية المريعة في مخيلته فور ذكرها لكيفية القتل , فأحس بحبات عرق بارد تخضب جبينه وبرودة صقيعية تكيس بدنه, وتنمل قشعريري يعتري أطرافه ودوخة (مثل دوخاته التحشيشية في شوارع باريس التي لم يكن يظن يوما أنه سيشفى منها وكاد في أحداها بعد أن يأس تماما من جدوى حياته أن يلقي بنفسه من فوق جسر ميرابو في مياه السين ويموت غرقا في مياه نهر الخالدين نهر الباريسيين ونهر جوستاف إيفل ليكون شاهدا على نهاية حياته) تشل دماغه تماما وتزيد من وزن جثته وتزيده ثقلا وهما وتبلدا ..ظل ساهما تحت نير وجع الرأس ودوخة الدوار الذي ما انفك يحرك الأرض ويلفها تحت قدميه ويقلب المنازل فوق بعضها كما تتقلب العلب الكارتونية وتتطاير في الهواء ثم تهوي فتعاود الريح العاتية من جديد رفعها عاليا وهكذا دواليك ..شعر بنفسه محمولا على أتون غيمة قطنية الملمس وجسده المنهك يلف على ظهر دولاب من دواليب الهوى الكهربائية الحديثة التي تدور وتتقلب في الهواء بسرعة جنونية غير مسبوقة أذا ما ساء حظ راكبها وفلت خصره من أحزمة الأمان وسيور المثبتات الوقائية فمن شأنها أن تقذفه من أعلى ارتفاع لها وساعتها سيكون مصير أعضاء جسده وعظامه كمصير خرزات مسبحة كرت من خيطها الذي أنحلت عقدته الرئيسية فانفلتت حباتها وتناثر حطامها في كل حدب وصوب ليس أكثر..

أحس بصوتها يخترق جدار الصمت ويعبر أغلفة اللاوعي وجدران السكون الكوني ويأتي من بقعة نائية آهلة بأوشحة تطلي الكون بالغموض والالتباس ويقول بكلمات مطاطية كأنها آتية من عالم الأحلام والخيال اللامتناهي:

ـ الـــــــــــــــــــــــو.. الــــــــــــــــــــــــــــــــــو أمـــــــــــا زلــــــــت علـــــــــى الـــــــــــخط .؟

تفاجئ دهشا بذهنه النائم يستيقظ على صدى صوتها السائل كمياه تسللت إلى فراش نائم في كهف منسي فا يقضه من غفوة سكر تاريخية حين وجد نفسه عاجزا عن النطق وذهنه الشارد لا يقوى على لملمة وأدراك ما كانت تتفوه به من كلمات لكنه حسبها بفطنته الحادة على عجل بعد أن أستعاد شيئا من وعيه من أن سؤالها يستدعي ردا مباشرا كي لا تقطع الخط وتنهي المكالمة رغم أنه لم يتخلص بعد من حالة الاندهاش وانعدام التوازن والدهشة ففتش جاهدا وبسرعة من يريد تلافي الأمر ويصلح الوضع وقلب في رأسه عما يمكن أن يقوله لها في هذه البرهة ويكون جوابا ربما سيفي بالغرض ويعيد الحديث إلى جادته الأولى .. تحامل على نفسه وشحذ قواه الخائرة وقال : بلهجة فيها شيء من التركيز.

ـ أنا أسمعك .

ـ ها .. لماذا سكت..؟

ـ بسبب تقطع في الخط على ما أظن ..أنت تعرفين مشاكل خطوط الهاتف هنا , خصوصا بعد أن ضربت في الحرب الأخيرة .. نجح في ألقاء اللوم على رداءة الخطوط وفكر بما سيحدثها عنه ريثما تستأنف الحديث مرة ثانية.

ـ أها نعم ربما صحيح...

ـ أيه .. يا وصال ..

ـ أيه يا شامخ..أجابته بذات الوزن وبذات الأسى الذي بدا صوته عليه

ـأي خنزير ارتكب تلك الفعلة الشنيعة قولي لي يا عزيزتي.. قال ذلك بصوت متضرع وبالكاد يسمع وجسده المنكود مازال يتقد كشعلة نار تجود باللهب, ثم حاول أن يواسي نفسه بسؤال آخر عن أمر ما..ظن لوهلة أنه فات عليه الكثير من الوقت دون أن يلح له ولم تسعفه الذاكرة ليستفسر عنه .

ـ ألم تلقي الشرطة القبض على الجناة؟

أثر سؤاله هذا , طاف شبح ابتسامة ساخرة ارتسمت على انفراجة شفتيها الجزعتين, قبل أن تسأل أو تتساءل بمرارة واستهزاء مؤلم

ـ أية شرطة هذه؟

ـ فهمت ولكن لا أدري ما يمكن أن أقول.

ـ هم .. نعم .. نعم , و ما نفع ما قيل أو ما يمكن أن يقال؟ بطأت قليلا من مواصلة الكلام لبرهة وهي تجمع بأطراف أصابعها خصلة من شعرها لتعيدها إلى خلف أذنها ,وانتظرته فرد دون وعي موافقا ونافيا في آن.

ـ نعم ...نعم !لكن بالأحرى لا ... ثم فطن إلى شيء ما كأنه كان غائبا تماما عن ذهنه ,وانبثق متجليا على حين فجأة .

ـ ألديك وقتا لنطيل قليلا هذه المكالمة ؟

ـ لنطيلها ... قالت ثم زادت )

ـ لدينا الكثير من الأشياء التي لا بد من بحثها..

ـ أسمحي لي بثوان لجلب سيجارة، سيجارة فقط ( وأكد لها مرة ثانية )

ـ سأعود فورا.. ترك سماعة الهاتف تتأرجح متدلية من على حاملة التليفون، وسحب من علبة زرقاء اللون سيجارة نوع سومر ووضع عقبها في فمه ثم قام أصبعه الكبير بالضغط على زر الولاعة فنشبت النار بطرف اللفافة ،مص سيجارته بنفس عميق وراح يمضغ دخانها ويمجه بلذة وبنهم فائق بعد أن نفث تيارات متلاحقة من الدخان شكلت بعد تسامقها غيوما صغيرة سرعان ما تقطعت أوصالها وتشتت نثارها في فضاء الغرفة الذي كان يحفل بعتمة ضبابية كثيفة أسهم بها الضوء الكسول الذي كان يرسله المصباح المعلق في السقف واندفاع موجات الدخان التي تسلقت عاليا حتى غشت المصباح وبلغت سقف الحجرة المجصص بالجبس , رفع سماعة الهاتف من جديد وبادر معتذرا بلهجة حانية وودودة بعد أن ركا السيجارة على طرف المنفضة..

ـ معذرة وصال..تأخرت عليك ها.

ـ لا ليس كثيرا.

ـ أأنت بمفردك الآن ؟

ـ منذ فترة طويلة.) فسأل وهو فريسة الحيرة والاندهاش

ـ والوالدة . . أين أمك ؟

ـ ألم أقل لك أنها توفيت... أباحت له بهذا النبأ الذي زاده ألما وسخطا وذهولا فقامت بإغماض عينيها كما لو أنها تتغلب على ألم ما

ـ يا إلهي أيعقل ذلك ...استحالة..

وهنا نطق بحنجرة مخنوقة وبصق في الهواء بعد أن رأى خياله رموشها مثقلة بالدموع

ـ تفوووو على هذه الحياة ..غمغم مختنقا بالكلمات كالمصدوم وفمه يغص برغوة من اللعاب وبكمية من الدخان الذي ملأ فمه.. وحين لم تفقه شيئا مما كان لسانه يهمهم به تحاملت على نفسها وباشرت الكلام من جديد قالت:



ـ ماتت في صباح يوم خريفي دون أن تحدث أية ضجة

أتذكر تماما اللحظة التي توقف فيها قلبها بشكل مفاجئ وهي جالسة على مائدة الإفطار حتى أنني ما زلت أذكر قشرة الزيتون السوداء الذي كنا نتناوله مع شطائر جبنة الكرافت وعلقت بين مفرقي ضرسيها الأماميين, رغم أنني كنت مرعوبة إلى حد الهلع من زائر الفجر الأعمى الذي كنت أتوقع قدومه في أي لحظة ليرم روحها رما كوحش,

كنت قد توقعت وقوع ذلك قبل موتها بكثير, خصوصا بعد أن حمل عليها الهرم والشيخوخة حملة واحدة لا قبل لكيانها بتحملها فهجمت عليها سلسلة من الأمراض هجمات شرسة,السكر والجلطة الدماغية وتصلب الشرايين وضغط الدم وأنتفاخات زرقاء تغطي الذراعيين وأجزاء كثيرة من البدن فصرت أتفاجئ في كل يوم بالمستجدات وأنا أراقبها عن كثب دون أن أشعرها يوما بما كان يخلفه ذلك في نفسي من قلق وألم وترقب بقيت أنطر صرخة الفجر أو غصته على ذلك المنوال من القلق حتى خرت شمعتي واحترقت مثلما تحترق أوراق شجرة خريفية وذابت أمي كما تذوب شموع العزاء بكمد وشحوب أخرس وحزن عجيب بلا ولولة أو استغاثات يائسة مجرد حشرجات معدودة في غلصم زردومها واختناقات عميقة ثم تركت رأسها وجزءا من نصفها الأعلى يرتمي على خشب طاولة الطعام وتركت كف يدها تنضغط ما بين صدرها وحافة الطاولة الحادة.. كانت تعلم علم اليقين أنها في المطاف الأخير وعلى مشارف الشوط الذي كان يلفظ أنفاسه دون أي أمل بإعطاء فرصة أضافية وتختتم خواتيمها النهايات المحتمة..

صحيح أنها كانت تأكل وتشرب عند الضرورة فقط وتدري أن خطاها تسير على حافة هاوية لانهائية وصحيح أيضا أن

تطعاجات وتهدلات أخذت تترك أثرها على الوجه وجحوظا يلقي بظلاله على العينين اللتين كانتا تلوذان في قعر محجرين شحب محيطهما وتحدب أحنى الظهر وآذى الساقين فثقلت الخطى بعد أن زادت أوجاع المفاصل وآلام الظهر,عجزت العلاجات عن وقف تداعياتها فسأمت وكلت من مراجعة الأطباء وصامت عن أخذ أي عقار دوائي وسلمت أمرها لله ويد القدر القاسية بعد أن وضحت نذر الأشياء على الأجفان وعلى خطوط الأوردة وممرات الشرايين الرفيعة التي نفرت من تحت الجلد خضراء بشكل جلي ناهيك عن الغصات والاختناقات الليلية والكوابيس المدمرة التي شلت راحتها في النوم فكنت أشاهد صحة أمي تتهدم أمامي يوما بعد آخر ونطرت النهاية قبل حدوثها كما ينطر العساس حلول الظلام ليرتقي الرابية ..

ولم يمض الكثير من الوقت حتى أن.....

بلعت مرارة ريقها بألم وأضافت بعد شيء من التردد ...

ـ لم يكن قد مضى الكثير من الوقت على رحيل أمجد , حتى لحقت به أمي مغادرة هذا العالم ... كلهم غدروا بي وتركوني وحيدة, يا شامخ , حتى زوجي هو الآخر قد اختفى وتبخر أثره في ظروف شديدة التعقيد ومن لحظتها لم أعد أعلم عنه أي شيء منذ أكثر من عامين تقريبا وأنا أقلب الأيام والشهور بالانتظار... غمغم الرجل , وقد بدت عليه حيرة ساذجة وهو يجذب نفسا آخر من سيجارته قبل أن يثبتها بارتباك بين فوق منفضة السجائر وهو يقوم بتجفيف حبات العرق التي رشحت من جبهته بمنديل ورقي أقتطعه من علبة المناديل التي كانت أمامه على الطاولة..

أعتدل الرجل بعض الشيء في جلسته وملامحه أخذت تعتريها علامات الجزع بعد أن تبدلت سحنته بعد أن أصابه شيء من الانزعاج والدهشة امتقعت على أثرهما جبهته والتفت ناحية شاشة التلفاز الذي كان يعرض فلما عن الحيوان فيه أسدا يجهز على طريدة لاهثة خارت قواها بعد مطاردة نارية تخللتها مشاهد لاهبة عبرت بعمق عن فحوى الصراع الأزلي بين الجلاد والضحية بين الآكل والمأكول التي بينت حقيقته وأبديته بشكل لا يقبل اللبس تلك الملاحقة التي لم تدم بسبب عجز الضحية على مواصلتها فسلمت لحمها لأنيابه القاسية بعد أن نال منها التعب والإجهاد، ثم لاح له خيط الدخان الهش يتصاعد متعرجا من طرف سيجارته ليشتبك مع بخار ضوء مصباح غرفته الذي كان يتدلى من سقف الحجرة المعتم ويرتطم بشعاع التلفاز حين تتحرك الصور التي تشدها عدسة الكاميرا التي كانت تبدو في عجلة من أمرها وهي تلتقط اللقطات بشكل سريع وتدعها تنمحي لتلتقط صور أخرى. .

قال شاعرا بالذنب

ـ عفوك يا وصال..

أمال نظره نحو النافذة وقال من جديد

ـ الحقيقة لا أدري ماذا علي أن أقول..

فاه بتلك الجملة المفككة بهمس حالم وهو يسبح في غيم خياله العاتم

. لا أدري أن كان هذا الخيال قد ألمح أليه بشيء عن ذلك الزوج الذي تربع على عرش امرأة تدلهت بحبه وكان مخططا من قبل أن يكون هو من سينصب على عرشها..



وأعقب ذلك برهة صمت عجز خلالها كلاهما عن الكلام وراح كلاهما ينتظر استفسارا أو توضيحا من الآخر حتى ولو بإشارة شديدة المواربة لا تفضي إلى شيء وهما يسبحان على موج الماضي الذي ينبئ بغرق جميع مراكبه وموت جميع ملاحيه ..

والتمع في رأسه خاطر وطرأت له فكرة مفاجئة, أن يسألها عن الزوج المخطوف أو المختفي وعن كيفية اقترانها به أكان ذلك الاقتران قد تم عن حب يائس بعد أن قطعت خيط الأمل من جانبها بعد أن أوقف هو المكالمات التي كانت تأتيها من باريس وتوقف عن مواصلة كتابة الرسائل الأسبوعية التي كانت تحمل لها صور الأمل والوعود والبشائر والآمال من باريس ؟ أم تراه مجرد تعارف بترتيب من وسطاء تربطهم صلة وصل بالطرفين لكنه عدل عن طرق هذه الفكرة الجهنمية التي خطرت له في اللحظة التي كان سيتفوه بها فأمتنع عن السؤال متداركا الشطط الذي كان سيقع فيه بآخر لحظة وعلى الفور كال لنفسه الكثير من اللوم والتقريع, مؤنبا إياها أشد التأنيب سرا بعد أن شعر بسخافة ما كان سيقدم عليه من حماقة:

ـ أسكت أيها الغبي ..زجر نفسه ووبخها بشدة بعد أن أحس بفظاعة ما كان سيرتكبه من فعل شنيع وتمتم بصوت غير مسموع )

ـ فعلا أنني خشنا وغبيا ومنحط وسافل هي في أي وضع..؟ وأنا أفكر على شاكلة أبناء هتلر ميتي الأحاسيس ومتخشبي المشاعر...

زهد كلاهما في التطرق إلى بحث هذه النقطة الجوهرية وكأن اتفاقا مضمرا كان قد فرض عليهما بقدرة قادر يقضي بعدم بحث هذه النقطة الجوهرية

ـ ألم تعرفي شيئا عن مكانه بعد ؟ ... قال: بلهجة حيادية, وأردف بعد برهة صمت قصيرة بلهجة أكثر حيادية) أو الجهة التي تقف وراء ذلك الاختفاء الم تتوصلي إلى خبر من هنا أو تحصلي على معلومة من هناك..؟أنت تعرفين في ظل هكذا أوضاع وكما هو شائع, ربما من شأن معلومة طفيفة و...

خيط رفيع يمكنه أن يأتي بنبأ سعيد..

ربما يدلك إلى مكانه وينهي حالة الشد والجذب بين أن يكون أو لا يكون وتتخلصين من أعباء القلق ومتاهات الانتظار ؟

ـ لم أمسك بطرف أي خيط من الخيوط ولم أصل إلى أي حقيقة من الحقائق رغم بحثي الطويل وانتظاري الجارح...

لم يدلني أو يتصل بي أحد.. لم يحصل أي شيء من هذا القبيل على الإطلاق .

ـ غير معقول.

ـ هذا هو اللامعقول الذي أصبح حقيقة مرة في هذه البلاد اللعينة .. حقيقة صارت تأكل وتشرب معي, رغم أن في نفسي شيئا لا يسلم بتقبلها لأنها ببساطة..منافية للعقل . . فرد عليها مذعنا .

ـ يبدو أن الحقائق المنافية للعقل, كثيرة هذه الليلة.

ـ ها ..شفت!؟

ـ لكن من البديهي أن اختفاؤه المفاجئ ينطوي على الكثير من الغموض والكثير من الملابسات وقد يأتي اليوم الذي يظهر فيه ثانية, هذا شيء وارد بالطبع..

ـ بالطبع... قالت مؤكدة كلامه دون أن تكون لديها أي رغبة بذلك..

أخذ نفسا من سيجارته ثم أطلق تيارا كثيفا من الدخان من فمه وأضاف بعد أن تجشئه بتمهل شديد) ليس بوسع أي أمريء أن يفتي بأشياء لم تزل خفاياها معلقة في علم الغيب.

ـ بالفعل لكن ماذا بوسع المرء أن يفعل..(سكتت ثم عادت لتقول بلهجة قانطة)ــ ربما ستصبح حقيقة أضافية لا تقبل الطعن أو التأويل..

ـ أتظنين ذلك ؟

ـ بالطبع, لكن ما ظل يتلاعب بمشاعري ويؤرجحني ويفتل بي وجعل من الأمر بين ,بين هو أني لم أضع يدي على رأس الحقيقة أو طرفها رغم أني لم أئلوا جهدا في سبيل الوصول أليها ..لم يتوفر لي أي خيار آخر غير خيار التمسك بالصبر وانتظار ما ستفصح عنه قوادم الأيام...

كانت تتكلم وهي ترسم بقلم حبر دوائر صغيرة على غلاف أحد الكتب القديمة.

سادت برهة صمت قال بعدها بصوت مهرهر لا يعبر عن شيء واضح

ـ لا يمكن لي تخيل حياة أشد تعذيبا من حياة كهذه..

اعذريني على قول ذلك لكن ما سمعته منك في هذه الدقائق القليلة من فجائع ومصائب يحملني على الاعتراف من أن كل ما سأقوله هو لا يعد شيئا إزاء نازلة من هذه النوازل التي ذكرتها.. كيف استطعت تحمل كل ذلك الشقاء , ها..؟{ كيف ؟.قالها بألم وحرقة } وواصل كلامه بحماسة أشد بعد أن ساد صمت قصير.. وهنا يجب أن تتأكدي تماما من أني لا أقدم تعزية أو مواساة بروتوكولية لا أبدا لا أريد الخوض في هذا الرياء الاجتماعي أو ما شابه لا, استحالة .. ثقي من أني لمندهش وبشكل لا يصدق من صلابتك وبقاءك متماسكة وقوية رغم أنك عشت وحيدة في واحدة من أكثر البلدان خطرا..



ـ بالفعل هذا صحيح..لكن هذه هي ظروفنا..ماذا تفعل حين يفرض عليك أن تواصل العيش والاستمرار في هذه الحياة رغم أنك تعرف أنك تعد ساعات وتشطب أياما لا أكثر لأنك تشعر أنك تعيش بلا مغزى ودون أي جدوى أو هدف..

ومثلما تقول جارتي أم سلام

مكتوبا على كل واحد منا أن يأخذ حصته من المرمطة في هذه الدنيا ,وأنا أوفيت بالدين ونلت الكثير من هذه المرمطة والبهذلة في هذه السنين العجاف وحصلت على ما فيه الكفاية من ذلك وانتهى الأمر .. ثم أن هذه المصائب أقولها بأسف شديد أصبحت لدى الكثيرين منا شبه اعتيادية بل ومألوفة جدا.. لا أدري أن كنت على علم بما كان يحدث على أرض الواقع في السنة الماضية حيث صارت روائح الجثث المرمية في الشوارع والمعلقة بأسلاك الكهرباء لا تدع أحد من سكان بغداد ينعم بالنوم ولو للحظة لا في الليل ولا في ساعات النهار الصاهدة بسبب تفسخها وعفونة روائحها الخانقة..



فيبدو أن حياتنا قد أتبنت على هذا المنوال الجحيمي فمن مصيبة إلى مصيبة أخرى ومن بلوى إلى أخرى أشد وأكثر بلاءا ومن الصراعات الدامية بين الأحزاب أيام العهد الملكي إلى الجمهوريات العسكرية إلى الحروب الداخلية ثم الحروب الخارجية والحصارات والقمع إلى التفتت والتطاحن الحاصل بين مختلف الناس حتى بين أفراد الأسرة الواحدة..

ـ تصوري يا وصال حتى عراقيو الخارج قد أنتشر بينهم هذا الداء القاتل رغم أنهم يحيون حياة تعيسة بل أشد تعاسة من الحياة التي تحيونها هنا في الداخل.. من يصدق ذلك الكم من اللاعدل و أللأنصاف الذي وقع على رؤوس العراقيين دون غيرهم هل تعلمين أن تعاساتهم مضاعفة وحبهم للعراق أكثر من ـ من هم في الداخل بأضعاف مضاعفة بمرات ومرات ومرات, ولكـ أن تتخيلي نوع تلك المعاناة الغيبية التي يقاسونها رغم أن روح الفرقة الموجودة بين أبناء الداخل قد لاحهم نثارا من وسخها ؟

ـمعقول..؟ وما يقال عن انخراط العراقيين في حياة وعادات تلك المجتمعات والرخاء ونوع الرفاهية وشكل السعادة في أوربا ؟

ـ السعادة... السعادة بالطبع حيث تكون سعيدا ... ثم كيف تشعر بالابتهاج وأنت مرفوضا بشكل شبه تام... ها قولي لي بالله عليك؟

ـ وأنت..؟هل كنت تعاني من هذا الرفض.هم ..مع أنك قضيت معظم سنوات شبابك في أوربا بعيدا عن مشاكل البلاد وحروبها العبثية وواقعها المدمر الذي كان يزداد تدميرا وترديا يوما بعد آخر.

ـ تقولين أنت ... أنا.. توقف قليلا عن الكلام لهنيهة ثم قال بعد ذلك:

ـ شبابي الذي أهدرته في أوربا.. أنا ماذا.. أنني لاشيء هذه هي الحقيقة صدقيني, وأوربا هي الأخرى أيضا لا تساوي شيئا

وأكثر ما يقال عنها لا يخلوا من التهويل والمبالغة الزائفة والتباهي الأجوف.. صدقيني أن الكثير مما يقال عنها ما هو إلا تلفيق وأكاذيب وحذلقات تافهة...أوربا بالنسبة لي كذبة مزوقة.. صدقيني مجرد خدعة لا أكثر ولا أقل... كذبة كبيرة,لم تنطلي علي طراوتها الخارجية سوى في السنة الأولى على تواجدي في مدنها..ربما أنت ذهبت من قبل إلى هناك وأنت صغيرة بصحبة الأهل كسائحة وربما غشتك البهرجة والأضواء والألوان البراقة والطرق المنتظمة وظننت أن الحياة زاهية مثل أضواء باريس الجميلة ومثل تلك الصورة التي رسخت في ذهنك...حياة الواقع هي على النقيض تماما

ربما لأن خلاياي قد تعبأت حقدا على ما فيها بسبب ما لحقني من حيف وتشرد وجوع ومبيت على أرصفة الشوارع العارية وعد دقائق الظلام في أنفاق المتروات...



وهنا سكت عن ذكر الحقيقة التي كان يقتات بواسطتها والتي كان فيها يشتغل أجيرا جنسيا نمرة هاتفه وأسمه يظهران بين الحين والآخر في صفحة الخدمات الشخصية وبإعلان مختصر وسط مساحة قلب حب دامي بخط أسود (سيداتي آنساتي سادتي إذا كنت تبحثون عن رفيق جنسي لليلة فاتصل بنمرة الهاتف التالي) أخفى عنها حقيقة هذه المهنة التي كان يتلقى لقاءها أجرا معقولا وعاد ليواصل شكواه:



ليال كنت أطلب فيها الرحمة من الشياطين وأتوسل بالقوى المشعوذة في هذا العالم من أجل أن تحفظ أعضائي من التجمد بفعل البرد وكم صليت لربات العهر من أجل أن ترأف بحالي وتمنحني ساعة نوم في فراش دافئ أهد عليه جسدي المشلول من شدة البرد كنت أمني النفس بليلة أتنفس فيها دون عناء تحت لحاف دافئ يعيد لأطرافي شيئا من حركتها ونشاطها ..

وهنا أخذ يتكلم بصوت أعلى من المعتاد:



ـ حين يذيقونك أصنافا من المرارات لم تذق مثل مرارتها من قبل ستعرف كيف تذوي أمام عينيك الأضواء وهي في أشد توهجها ولمعان أشعتها وتشحب أمامك في عز النهار الشوارع الضاجة بالحركة وهي تهمي بالصمت والضباب رغم أن حقيقة الواقع تقول غير ذلك وتتحول العيون الزرقاء والخضراء إلى ألوان وأشكال لا شد فيها ولا جذب سوى غموضا باهتا رماديا كما هو لون السموات الأوربية



مكثت تحت سماءها سنوات طويلة قضيتها في ذلك الطقس الذي يظل كئيبا طيلة فصول السنة ,

كرهت وجوههم الصفراء وحقدت على بشرتهم الباردة وعلى الهرولة الصباحية للحاق بالعمل, واحتقرت السؤال اليومي عن العمل وعن الصحة وسوء الطقس وحزن المطر, العمل المهلك الذي تهدر فيه رهافة إحساسك ونعومة أصابعك وإنسانيتك رغم أن من يريد أن يمكث في أوربا فلا بد له أن يمر بمواسم غسل الأطباق وتجفيف الطاولات وشطف الأرضيات بالمنظفات والمساحيق التي لا تجني من وراءها غير الاكزيما وتنقية الزجاج كل صباح والتعود على أصوات الموسيقى الصاخبة طيلة ساعات النهار

نمط حياتي حقود ومحاسبة يومية قاسية محاسبة خالية من الرأفة حين تعمل معهم فسيستأثرون بك وبأحلامك الليلية وبكيانك كله وسيستهلكونك شر استهلاك



تعلمت أشياء كثيرة في الغربة أتقنت اللغات وحفظت الأتكيت والعادات والحياة الفارغة اللحاق بالوقت وقت العمل ووقت الراحة دفع سيل من الفواتير مع بداية كل شهر والتحايل على الضرائب الباهظة متابعة أحوال الطقس المرعب المليء بالكآبة وتحضير الملابس التي تتواءم مع حالته أخبار المهاجرين التي يحرص على بثها التلفاز بشكل يومي ويقرأها مذيع يتصف بالعنصرية ويمتاز بلكنة حقودة يرشح منها التعالي والاحتقار يرشنا بها مذيعهم البشع بتبرم وتوعد شديد اللهجة

المهاجرين فعلوا كذا المهاجرين سرقوا كذا الوافدين قتلوا نهبوا ذبحوا..

لا تخلوا نشرات الليل من منقصة تجير بحق الأجانب بروفة يومية يواجهك بها الأعلام المرئي والمقروء نعت دائم بالخزي وبالعار والاحتقار وكل خبر سيء يبثه الأعلام عن الغرباء تجد معانيه في وجوه الناس في اليوم التالي سواء كنت في الشارع أو في مكان العمل أو حتى في المقهى تشنيعات لا بد لك أن تعتاد عليها تألفها و لا تبالي لأنك أن باليت فأنك ستمرض وتعتل وهم بطبيعتهم لا يعتلون ولا يمرضون لأنهم يعتنون بأنفسهم ويجيكون أوضاعهم بشكل يومي كما يفحص المهندسون الطائرات قبل إقلاعها فأن طارت حطت وأن لم تحط سقطت فحال هؤلاء مع صحتهم لا تختلف كثيرا عن إدامة المكائن والآلات يعمرون مثلها ولا يموتون إلا بضعف أعمارنا ويظلون حتى آخر رمق من حيواتهم يسافرون ويسكرون ويعربدون ويقامرون ويركبون الدراجات الهوائية ويتشمسون على الشواطئ وحين يرمى بهم بعد أن يبلغ العمر أرذله في عزل صحي أو في نزل العجزة بلا تلد أو ولد ساعتذاك يبدو عليهم الندم لأنهم لم يحسبوا حسابات هذه النهاية الذليلة النهاية التي ينتظرها معظم الأوربيين بسبب استخفافهم بتأسيس عائلة وإنجاب أبناء يرعونهم في كبرتهم مفضلين عليها حياة اللهو والانغماس بالفوضى لا هدوء فيها ولا راحة ولا طمأنينة إيغال بحياة طائشة وبلاهة لا أدري أن كنت أنا على صح وهم على خطأ أم العكس صحيح لكن الجدب الروحي الموجود في نظم تلك المجتمعات لا بد له من أن يمسخ الود والمشاعر بين الناس ويبلد الأحاسيس بشكل تام



اخترقتها وتعرفت على الكثير منها واغترفت ما اغترفت من تفاصيلها وحيثياتها لم أكن سأبلغها لولا وجود زوجتي كل شيء عايشته وخبرته كان بفضل وجودها معي فالسلوكيات والعادات وأعراف الناس هناك فهمتها على حقيقتها وحين أقارنها مع ما عليه حال مجتمعاتنا من قيم ومثل أجدها لا تفرق كثيرا لولا وجود المحرمات والتابوات الدينية التي تحول ما بين الفرد الشرقي ورغباته لأنه كما تعرفين أن الكثير من أناسنا يقفوا عاجزين أمام الحواجز والمعوقات التي يضعها الفهم البليد للدين في حين أن الشعوب الأخرى لم تعاني الكثير في تجاوز ذلك ونحن إن كنت تذكري في السبعينات من القرن الفائت كنا هنا في العراق وحتى في البلدان العربية الأخرى كنا أقرب منا للتأورب و قاب قوسين أو أدنى من نيل التحرر المرجو لولا بروز الإسلام الراديكالي المتطرف الذي أختطف المجتمعات الأكثر تخلفا ثم زحف على البيئات المتمدنة هذه واحدة من أكبر الطامات التي ضربت بلاد العرب وهلهلتها وأعادت العجلة إلى الوراء لأكثر من مائة عام على الأقل عجلة التقدم التي كان من المنتظر أن تمضي بنا قدما وليس كما هو حاصل الآن آخذة بالدوران إلى الوراء فمجتمع كهذا يرعى التطرف ويحرص على تنميته بين ظهرانيه ماذا ينتظر منه غير هذه الارتدادات المميتة التي أدت وستؤدي إلى خراب أعظم طحن وهتك وتدمير لا سابق له لو أننا عالجنا انتشار الداءات والإمراض منذ أيام النشأة الأولى للدولة لما حل ما حل بنا, فهاهي ماليزيا وسنغافورة ودبي والمقاربة التي يمكن أن نعقد أنفسنا معها بمقارنة موضوعية حيث المشتركات الجوهرية تنصب على دبي التي تشبهنا بالكثير من النواحي فمن خلال هذه الأمارة التي قامت شواهقها من بين الرمال وبزغت أبراجها من قلب هذه الصحراء العربية نستطيع أن نتبين مدى تأخرنا عن الركب رغم أن الحيثيات والدواعي ذاتها حتى أننا نشترك معها بذات النوع من الثروات الطبيعية لكنها تفوقت على نفسها وباتت حاضرة يترقب جديدها العالم كل هذا لأن ما يمشيها الضمير المحض والوئام فحسب, هذه واحدة من المعضلات التي وقفت حائلا بين أبناء بلاد ما بين النهرين الذين على ما يبدو قد تركوا الجوهر وانشغلوا بالأطراف وانخرطوا بمشاكل لا حل لها مشاكل أن نشبت فمن الصعب أن تعوفها الشعوب قبل أن تستنفد كل ما لديها من طاقة عنفية ثم ربما تفكر بعد ذلك بترك العنف بعد أن تمله وتشعر بلا جدواه

وما لفت نظري بعراقيي الخارج حقيقة أنهم يتآخوا مع سائر الأجناس إلا فيما بينهم وحين يحصل أن تنشأ معرفة وصداقة بين عراقيان فعنوانها الفشل لأنها سرعان ما تنتهي بخلاف عميق في الأغلب وربما يتطور هذا الخلاف بشكل دراماتيكي ليصل إلى عداء وضغينة محضة تبدأ على أثرها للأسف فصول من التجريح والتشنيع بالآخر وتسقيطه بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى فنحن للأسف الواحد منا يظن نفسه ملاكا والآخرين مجرد حثالات وعبيد مع أن جميعنا أولاد تسعة كما يقال رأيت من خلال غربتي ممن التقيت بهم من الشعوب الأخرى يمجدون أدبائهم ويكيلون لهم الثناء المستحق إلا نحن العراقيون نفعل الضد من ذلك تماما فمثلا عندنا الشاعر ينتقص من شاعرا آخر والرسام يفعل ذات الشيء والباحث والروائي وهلم جرى لا أدري لم نحن الوحيدون مصابون بهذا الداء التدميري..

لم نفلح في التغلب على سلبياتنا بل لم نسعى للتخلص منها والبحث عن إيجابية يملكها الآخر منا والبناء عليها كما يفعل بقية البشر لذلك وخصوصا حين أشاهد ما يحدث بيننا أعني نحن العراقيين من قطيعة وتشرذم كنت أنطوي على نفسي وأفضل أن أكون وحيدا على أن أدخل أو أكون طرفا في خلاف قد يؤدي إلى مهاترات ومشاكل حرصت دائما أن أكون بمنأى عنها..

ـ كان موضوعنا عن أوربا لكن انجررنا لأحوال سلوكياتنا وعلاقاتنا فيما بيننا وفي هذه المحطة دائما يتجلى لي أسم علي الوردي..؟ كانت تنصت بانتباه..



ـ نعم..ربما علاقات العراقيين في الخارج على هذا الشكل الشائن في التعامل فيما بينهم لكنها بالتأكيد هي أخف حدة ووطأة من علاقاتهم هنا في الداخل فالعنف كما تعرف هو المنطق السائد بين الناس والعنف حل بديلا عن التحاور والضغائن بدلا عن المحبة نعم للأسف القيم تزعزعت وتبدلت كليا بسبب الصراعات المستمرة التي هدت بنية المجتمع وخلخلت أركان البلاد وقوضت مقوماتها, بعد أن ظلت البلاد تشتعل بحرب ثم تنطفئ ثم تشتعل بأخرى فسلسلة الحروب هي التي قلبت أخلاقيات الناس وغيرت مزاجهم وسلوكياتهم وتصرفاتهم إزاء بعضهم البعض فأضحت الأمور خارج تعريف السيطرة وباتت هذه الحيثيات واحدة من أكبر العلل التي يصعب علاجها بسبب شيوع الأمية والجهل ناهيك عن التعامل الطائفي والجهوي الذي ترسخ بين الناس

حتى أن أحد المعلقين تساءل قائلا: على صور بشعة لمذبحة جماعية

ـ هذا المشهد يوحي بأن العراقيين لا لغة لهم لذلك بات ليس بوسعهم النطق إلا عبر طلقات الرصاص وتفجير المنازل والأسواق ومدارس الأطفال..

وهذا بالفعل ما أخذت عقارب الساعة تتحرك على نحوه يحكم العلاقات بين البشر بل دعني أقرب أليك شيئا من الحقيقة الأكثر إيلاما, حتى الأخوة صاروا يتقاتلون فيما بينهم من أجل المادة وتحدث بينهم القطيعة وأشد البغض بسبب أشياء تافهة الأخ أضحى يحاول نهب أخيه بل وصلت في الكثير من الحالات إلى التقاتل بين الابن ووالده فأوربا حسب اطلاعي البسيط على ما يدور على سطح الواقع فيها نظام صارم يقطع الطريق على مثل هكذا مغذيات من شأنها أن تشعل التصارع والاختلافات على هذا النحو كما أظن أن لا وجود لتلك القيم وتلك السلوكيات السائدة هاهنا مع تلك السائدة هناك وأنت على اطلاع ودراية أكثر من غيرك بتلك النظم أكثر مني بالتأكيد فلا مشاكل الثأر التي يقتل بسببها آلاف الأشخاص ولا مشاكل الدائن والمدين ولا مشاكل رجال العصابات والسياسة والدين المحليين منهم والمسوخ التي وفدت من خارج البلاد وبدأت تنشر وباءها في الشوارع والبيوت وفي الحسينيات وفي المساجد لم نسمع بمثل هذه الشرور من قبل رجال الدين من قبل لا هنا ولا في الخارج خصوصا لدى الأوربيين بعد أن أزاحوا الكنيسة التي كانت حجر عثرة وقف حائلا في طريق بناء الدولة المدنية الحرة,عزلوها في أول الأمر ثم باشروا بإزالة آثارها فسارت الأمور بعد أن حجمت ليس بمعنى الإقصاء وإنما من أجل وضعها في مكانها الطبيعي وعدم أفراغ دورها الروحي أما نحن فلدينا المسائل متشابكة مع بعضها البعض بشكل يثير الاشمئزاز والتقزز فتجد مثلا رجل الدين يمارس السياسة ويحل القتل وينتهج التحريض ويتفنن بتأليب البعض على البعض الآخر ويسعى للترويج لخطبه التي ينشد من وراؤها الاسترزاق نماذج مثل هذه لا تجد لها مكانا في أوساط الغرب كما يفعل بعض أصحاب المحال الشعبية فتجد من يبيع الملابس القديمة يضع بجانبها ثلاجة الآي س كريم وأكياس الشبس ويصيح بأعلى صوته رگي ع السچين ومن يبيع الآلات المستعملة يتاجر بالمجلات والأفلام الإباحية في فلك هذه الأجواء الغرائبية وهذا العبث والفنتازيا التي تدور على منوالها رحى حياتنا فأين نحن من أولئك يا عزيزي..؟



ـ كل ما أبديته ربما يكون صحيحا مئة بالمائة لا خلاف على ذلك وحتى لا أبدو في نظرك مغاليا أو متحاملا على تجربة الغرب كما يتحامل عليه المتطرفون على العكس تماما لأنه لولا أوربا لكنا لغاية الآن نغط في الظلام ويهيمن على حياتنا البؤس والأفكار البالية عرفنا جوهر أوربا والغرب بشكل عام من خلال ديستوفسكي ورامبو وصموئيل بيكت وجيمس جويس وفوكنر وفوكو ودينو بوتزاتي وسيلين وبتهوفن وباخ وشوبان وفيلليني وو.. كل هذه الأسماء التي ذكرتها والتي لم أذكرها من الأسماء القيمة تمثل لدي قيمة عليا غير قابلة للمس أو الخدش بتاتا ويمكنني أن أزيد أكثر في هذا الخصوص وأقولها بموضوعية خالصة أن ليس باستطاعة أي شخص واع ومدرك أن يجرؤ على الانتقاص من ما قدمته أوربا للبشرية جمعاء من وسائل اتصال وتكنولوجية وتقنيات تفوق العقل وتدهش الخيال أعانتهم على اختصار ساعات عملهم اليومي ووفرت لهم من وسائط النقل والشحن والاتصال الشيء الكثير كل هذا متفقا عليه مع التذكير بعدم إسداء ذلك مجانية لكن حين تعيش بينهم ستداهمك الأسئلة المحيرة سؤالا أكبر من الآخر وحين تعجز عن الإجابة على أي من تلك التساؤلات التي لا بد للمرء أن يقع في شركها ستجد نفسك غارقا في بحر من اللاجدوى واحدا من تلك الأسئلة الغريبة الذي دائما ما ظل يفرض نفسه علي وعلى كل متغرب ويجعله يتمعن بـ إلحاح شديد وجعلني أفكر مليا وبذات الوقت باستغراب ودهشة عن كيفية العلاقات الباردة التي تسود بين أفراد المجتمع بل تصل هذه البرودة لعلاقة الولد بأبويه والزوجة بزوجها كل شيء بالورقة والقلم هذه لك وهذه لي لا وجود للتلقائية والعفوية حتى بين أفراد الأسرة الواحدة وأضرب أليك مثلا واحدا عن عقود معظم الزيجات التي تبرم بين الرجال والنساء وكيف كل طرف يضع شروطه على الطرف الآخر و****مثلا كأن يكون كل ينفق على نفسه من مدخوله أو يكون العقد سنويا أي له مدة صلاحية وينتهي ومشتركاتهم التي تنحسر يوما بعد آخر بسبب الروح الاستهلاكية التي تتحكم في تسيير تلك العلاقات المحطمة كل يحسب حساباته بدقة يعد نقوده في الصبح وفي العصر وفي الليل ولا يأتمن لأحد لا لصديق ولا للزوج ولا لأي مخلوق على العكس من حياتنا التي تتفرد ببطء الإيقاع كما أنها أقرب من الحيوات الأخرى لحياة المشاعية , المشاعية الحقة حيث الجيب المفتوح والأنفاق دون حساب على الأصحاب والرفقاء تناول الأطعمة في بيت الصديق والجار والمبيت لليال دون أن يكون مبررا لذلك والصديق حين يجد نفسه مرتاحا في بيتي يمكث دون أي حرج لا عد ولا أي شيء من هذا القبيل لا أدري أن كنا نحن كشعب نعيش ونتصرف كمتصوفة أم أننا مختلفين لهذا الحد الذي يجعلنا لا ندري أن للآخرين حيواتهم التي يتداخل فيها الحلو والمر وقبحهم وحيثياتهم وأنماط عيشهم وصحيح كذلك أن من جاءوا وحكموا البلاد باسم الدين وجعلوا من مسببات وجودهم أن جعلوا من الله هو محور المشكلة بين البشر في حين أن أصل المشكلة هو العكس..

أما أوربا فبلا شك ما يحكم الدولة القانون والنظام والمؤسسات التي تدافع عن الناس وترعى شؤونهم الأفراد والمجتمع ككل والمدنية العالية والحس الحضاري الرفيع والبناء المؤسسي وأشياء كثيرة أخرى كل هذا لا خلاف عليه..

لكن السؤال الذي لم أعثر له على جواب هو ما فائدة الأشياء الميتة ما فائدتها أن لم تحركها الروح أن تمشي في مدينة معظم بناياتها من الشواهق ولا ترى علامة من علامات الطيبة لا تر مشهدا واحدا تتجسد فيه المشاعر الإنسانية الصرفة أن تتعاطف مع مسن مع شخص عاجز عن أطعام حتى نفسه لا عمل يؤدى بدون غاية كل الأعمال تؤدى بثمن وأرخص الأشياء هو الوازع الإنساني بل أن أي خدمة بهذا الخصوص قد تقوم بها فهي تعد ضربا من ضروب الحماقة..



في كثير من الأحيان أثناء مكوثي هناك وأنا كما تعرفين يعني بين فترة وأخرى كنت أتجول في المدن وحتى في البلدان الأوربية الأخرى وهنا علي أن أستثني العواصم التي تستطيع أن ترى فيها مختلف الأجناس ومختلف العادات زائدا مجاميع المنشطات الاجتماعية التي تهب في الشوارع في أيام الآحاد لتتحدى القوانين وتحاول كسرها كثيرا ما شعرت وأنا أتسكع وحيد أنني في شوارع ميتة تحتها جثث تتحرك والبيوت التي تتحرك تحتها جثث آدمية , جثث تستطيع أن تتحرك كما يحلوا لها أن شاءت..

حتى صفات الجمال والوسامة لدى المرأة العراقية هي تفوق بكل تأكيد كل ما يتجمع من ألوان في الأوربيات من عيون خضر وشعر أشقر وبشرة ذهبية

تعرفين كثيرا ما لازمتني مشاعر غريبة وتساؤلات اشد غرابة وأنا أتجول في المدن الأوربية أثناء سفرياتي الكثيرة بصحبة زوجتي كانت تضطرب لدي فيها صور الحاضر بخيالات الماضي ويلتبس الوهم مع الحقيقة الواضحة وكثيرا ما تراءى لي القبح الكامن وراء أصباغ صورة الجمال الخادع وألوانه المسطحة التي وجدتها مجردة من أي معنى وخالية من أي روح وأي حياة مجرد ديكورات الشوارع مقسمة وجوانبها مشجرة بالأشجار وأعمدة الكهرباء مرصوصة بهندسة دقيقة تبهر العيون المطفأة التي استطابت الجماد وألفت ثبات السواد ..

كل شيء كان منتظما بعناية شديدة, كل شيء في مكانه كل شي محسوب بدقة لا مجال ولا محل للعشوائية

أو شوائب الفوضى التي يمكنها أن تكسر نمطية المشهد..

لا أدري أن كنت متأثرا في ماضيي المترع بالفوضى والعشوائية والألم

ـ هذا شيء وارد.. قالت ذلك لكي تسهم في مجرى الحديث.



ـ ربما لكن أيضا كل شيء محسوب بدقة وبصرامة شديدة شيء مسرف في السخافة أيضا ناهيك عن نظام العمل القاسي هناك, آه لو تعلمين كم هو مدمر وأنت تدخل إلى العمل كأنك داخل إلى قلب معركة طاحنة أقصد أن من هم بعيدون عن ذلك الواقع لا يرون منه سوى شكله الخارجي فما تمرره الصور البراقة التي تخدع العين وتغش الخيال الجائع لما هو عليه الآخر علينا أن لا نغتر بالديكوريشن فقط هنالك حيثيات أخرى يجب أخذها بالحسبان لا أن نركض نياما وراء بهرجة تخبئ تحت ثيابها وهما وخديعة فالحياة كما أرى أنها ليست دائما في مكان آخر .. وهنا عرف أنه أقتبس من كونديرا عنوان روايته ووظفه لدعم فكرته وأراد أن ينقض على تعبيرات كفافي التي كانت ستصب في ذات المجرى وتزيد من دعم ما كان يريد أن يعبر عنه بشكل أكثر وضوحا وأزيد فضحا لهاجس الرحيل والاغتراب الذي تلبس العراقيين منذ أن حلت بهم فصول الاستبداد والظلم ,لكنه عدل عن طرق ذلك وعاد لسياق الحديث ووتيرته التلقائية..



ـ في واحدة من المرات رأيت هذه (الأوربا) مقلبا قاريا , فخا يقيد أذهان الناس السذج بشكل فظيع لا يمكن التخلص منه إلا بإذابة جباله الجليدية الشاهقة بلواهب هلامية ونيران لا ترحم حتى يكون بإمكانها أن تقدر على أذابته وتحويله إلى ماء مهروق منه.. في حقيقة الأمر لا ادري بماذا أسميها الآن ؟.

ـ يعني كل ما كان يقال عن العيش الرغيد فيها ضرب من ضروب المبالغة والتهويل ؟

ـ تهويل وتمظهر أن صح التعبير ! .. العيش في الغرب شكل لي مشكلة, مشكلة عويصة صدقيني .. خصوصا حين كنت لم أتعلم اللغة بعد ويا ويلي على من لا يستطيع تعلمها بسرعة ويحل مشاكله بنفسه ,لا أحد هنا يدرك أهمية ذلك ولا يعلم مدى صعوبته كذلك ..ومن المفارقات المضحكة أو المبكية التي فاتني ذكرها لك أن الأوروبيين قد تصالحوا مع الحيوانات بشكل مثير للدهشة وصاروا يقيمون علاقات حب مع الكلاب ومع القطط والفئران ولا يتقبلوننا..



ـ يا شامخ , الحيوانات وديعة ووفية جدا وحتى الحيوانات المصابة بسعار العدوانية لا ينقصها سوى قليلا من التعود والتدريب لتصبح لطيفة, ألم ترى بأم عينك وأنت تتجول في بغداد ما فعل الإنسان من خراب بهذه الدنيا ألم يقم بقتل الإنسان والحيوان على حد سواء وقام بتحويل المدن إلى مقابر تعج بالجيف والجثث المسلوخة والأشلاء المبعثرة والنفايات,الإنسان الذي تحكي عنه يا عزيزي آذى الطبيعة وحطم كل شيء حتى ذاته دمرها..

أما الحديث عن صعوبة الحياة فقلي بالله عليك في أي بقعة من بقاع هذا العالم يقدر أن يعيش الواحد بمنأى من المنغصات..

من المهم بالنسبة ألينا نحن من بقينا في الداخل ,أن يتوقف هذا الذبح اليومي وتنتهي هذه المآسي لعل البلد يلملم جراحه ويستعيد عافيته وأبناءه الذين ابتلعتهم المنافي القذرة ودول الجوار البائسة والصحاري الكريهة حينها أعتقد أن الأمور سوف تتحسن وستتبدل الأوضاع والأحوال ويعيش الناس حياتهم بهدوء وطمأنينة كما تعيش بقية الشعوب وننسى جراحات الأمس واليوم ونطوي صفحة الألم لعلنا نلحق بركب البلدان الأخرى التي قطعت أشواطا بعيدة على كافة الأصعدة...

أرادت من خلال لهجتها التفاؤلية هذه أن تمهد لتبديل مسار الحديث , وتنغزه باستفسار ذات مغزى عن أحواله وتستجلي عن أموره وأسباب انقطاعه عنهم وتستبين شيئا ولو تلميحيا

عما حل به وما طرأ على حياته من متغيرات لكن ترددا وخشية منعاها في أول الأمر من أن تنحي جانبا حياؤها الشرقي وتبادر لسؤاله سؤالا مباشرا خال من أي مواربة يتعلق بشأن شخصي قد يفتح عليها أبوابا لا تستطيع في المستقبل غلقها، لكن لحواء طرقها ووسائلها التي لا أحد يستطيع سبر غورها فهي غامضة بشكل يصعب تخيله ومقتدرة إلى حد لا أحد يتصوره لذلك هي دائما تهزم الرجل وأصل حقيقة هذه المنافسة التي يخسرها الرجل بشكل دائم تعود لأيام لليت وأيام الملكة عشتار التي كان يقف على بابها طوابير المتيمين والعشاق المستعدين للتضحية بكل ما لديهم من الغالي والنفيس لأجل نيل استحسانها والحصول على رضاها وحتى يومنا هذا الرجال ميالون للسجود تحت أقدام النساء الجميلات ,فحواء حين ترغب بشيء تناله وأن استطال بها الزمن أو نأى عليها مآل الطريق ، وحين تنوي ربط خيط الحاضر بسلاسل الماضي ,فهي حتما ستربطهما ببعض , وتجعل منهما جسرا تعبر بواسطته فوق ركام أمسها البعيد وحاضرها المجهول وتنال مرادها، فتشجعت وتحفزت للاسترسال بدفع دفة الحوار إلى الأمام دون أن توازي بين ما بيتته من نوايا ومخططات وبين ما استحضرته من وسائل وحيل لتبلغ من خلالهما على بغيتها وتلج بيسر لأسرار وعوالم ذلك الرجل الذي هجر البلاد على حين غرة وبشكل شبه غامض ومضى بعيدا ثم سرعان ما توقفت اتصالاته المتباعدة وانقطعت أخباره ورسائله حتى عاد بعد ذلك الغياب الطويل ليطرق على باب حياتها من جديد فعن لها أن تعرف وتتعرف على شيئا مما جرى له في تلك الغيبة الدهرية فحاولت جس نبضه في الوهلة الأولى بسؤال تمهيدي,ريثما تحين الفرصة وتتوفر الوسائل لكشف حيثيات تلك الغيبة الكبرى..

ولعل وعسى,أن يصب سياق الحوار في مجرى مآربها ومبتغياتها

ـ متى رجعت إلى بغداد ؟سألته بلهجة استفهامية مبسطة فيها شيء من المواربة..

ـ ليلة البارحة ..أجابها فتحفزت أكثر,وأكثر لإمطاره بسيل من الأسئلة...

ـ ليلة البارحة؟...

ـ أجل...

ـ ألم تلتقيا أنت وابن عمي في باريس؟ فرد عليها بتلقائية وببرود أوربي.

ـ باريس كبيرة جدا ومحتشدة بمئات الآلاف من السياح على مدار السنة وتمور بمختلف الأجناس من البشر أكثر زحمة من بغداد بكثير ثم أنني انتقلت إلى بلجيكا منذ سنوات طويلة.

ـ ألم تدرس في باريس؟

ـ بلى درست فيها كما تعرفين واضطررت بسبب قسوة الظروف وصعوبتها لترك الدراسة والبحث عن عمل أقتات منه تنقلت بين مهن عدة لم تكن أجورها تسد الرمق ثم تزوجت بعد ذلك من امرأة بلجيكية تعرفت عليها بظروف كنت أعاني فيها من مشاكل جمة, فخلفت منها ولدين في حياة ساد نصفها الأول الكثير من المحبة والطمأنينة والوئام أنتجنا ولدين ثم سرعان ما نشبت بيننا خلافات ومشاكل كثيرة يطول شرحها , بعد أن استعصى علي حلها قمت بترك البيت في أول الأمر منتظرا أن ينصلح الحال لكن حين لمست أن الخلافات قد ازدادت تعقيدا والفجوة قد ازدادت اتساعا طلقتها وعشت بعد ذلك شبه مشردا ومحروما من المأوى والطعام ومن رؤية ولدي وقضيت فترة طويلة بعد ذلك في ضنك شديد ووضع مزر غلب عليه العوز والفاقة كنت في حال يرثى لها وكنت سأموت لولا وقوف أحد أخلص الأصدقاء البلجيك معي في محنتي تلك..

ـ شيء لا يصدق ..ردت عليه باستغراب وقد بدت عليها دهشة صادقة.

ـ أكثر الأشياء لا تصدق في هذه الليلة.( سكت قليلا ثم رفع رأسه نحو شاشة التليفزيون ولم يلحظ شيئا لافتا فاسترسل متمما حديثه بعد أن أشعرته بإصغائها المترقب )

ــ هذا جزء يسير من حقيقة ما حصل لي بالضبط يا عزيزتي.

ـ و أولادك؟ قالتها بصوت منكسر

ـ بقيا في بلجيكا مع أمهم.

ـ أولاد أم ولد وبنت أم بنتين ؟

ـ ولدان ،زياد وسلام.

ـ لماذا لم تأتي بهما معك ؟

ـ كنت أنوي جلبهما معي لكن أنت لا تعرفين طبيعة النساء في تلك البلدان وحيثيات الزواج المختلط..

ساد قليلا من الصمت ثم أجابت بـ

ـ لا..

ـ لو فرضا حصل ,وطلبت ذلك من طليقتي لتفننت تلك المخلوقة في تأليف قصصا عني ونسجت أوهاما ومخاوف لرجال الأمن والبوليس عن خطورتي ولقامت بذر قصصها المختلقة بالمنكهات وحشوها بذرائع وحجج لا وجود لها في أرض الواقع ,لا لشيء فقط لتحول بيني وبين اصطحابهما معي..

ـ شيء عجيب حقا ..هل ستعود إلى هناك..؟

ـ إلى أين؟ سألها مستفسرا عن ماهية السؤال , دون أن يفكر مليا بمحتوى الإجابة.

ـ إلى بلجيكا بالطبع..

أكدت له ذلك لتستكشف وجهته القادمة وتتأكد من نواياه المستقبلية, وهي بالطبع تمني النفس أن ينفي أمرا تراه محتما ،لا لشيء, أو ربما لشيء كان ينبع من أعماقها دون أن تدري شيئا عن كنهه ونوع

ماهيته في هذه اللحظة ,

شيئا ربما يتعلق بهذه الوحدة المقيتة التي أطبقت عليها بكماشتيها كجدران البيت وأبوابه المغلقة وتركتها هدفا تتقاذفه الأوهام والظنون التي تشبه بحر يتلاطم موجه الصاخب ويصطرع في فلكه هول الأعاجيب التي تنبثق كجبال فوق آفاقه الواسعة,وجدت نفسها على حين غرة تسقط في يمه الذي لا يرحم ولا يهادن, وقد جاءها من ضباب المجهول, من يمد لها يده لينتشلها ويعيدها إلى سكة الحياة وعنفوانها من جديد, فلماذا لا تمسك به وتنج من براثن هذه العزلة وتتخلص دفعة واحدة من هذا القلق المدمر وهذه الوحدة المريعة التي بات خليقا بها أن تستخلص من مضامينها دروسا تستفيد منها وهي تعيش وحيدة في حياة تسير بشكل متعسر



وأن تحاوره بلهجتها الهادئة وخبرتها الأنثوية لتنتزع منه اعترافا حقيقيا وتستخلص منه كشف بكل ذلك النسيان الهائل, حريا بمثلها أن تقف على الأسباب الحقيقة التي كانت وراء ذلك التملص والنكث المدمر الذي حطم أعصابها وأضاع أجمل أيام شبابها وجعلها تمشي مشية المسرنم في يقظته ينبغي لها أن تحاسبه على فواتير ذلك الصمت اللذيذ الذي يجنح له الخونة من الرجال الفرنسيين حين يجدون ضالتهم بامرأة أخرى وهو لا بد له أن تأثر بتلك الالتفافات والمخارج التي من شأنها أن تخفف عنه وطأة التنصل فمن عاشر قوما أربعين يوما صار منهم كما يقول القائل



سحق سيجارته في المنفضة وسحب سيجارة أخرى وأشعلها, امتصها بعمق شديد وعلى مهل ثم تابع باستغراب واندهاش سحابة الدخان التي اندفعت من فمه لتشكل غيوما رصاصية المعدن والشكل غشت زجاج النافذة وعلت فضاء الغرفة الذي كان يزخر بالعتمة الضبابية التي كانت تخيم على ضوء المصباح..

ـ لا أدري..

رد عليها وهو شارد الذهن,بعد أن أحس بأنه يتعين عليه أن يستأنف الحوار ويقول لها شيئا ما , شيئا يبين من خلاله حرصه على مواصلة تجاذب أطراف الحديث وما ينوي فعله في قادم الأيام , فكان رده مفعما بالصراحة والوضوح..

بالفعل لم يكن يدري أو يعرف ما تخبئ له الأيام لأنه عاد إلى أرض الوطن وكان في نيته فقط أن يعود، أن يعود وبس,رغم أنه

لم يكن يعرف على وجه الضبط ما الذي يمكن أن يفعله في هذه الليلة أو التي تليها,فالعمر الذي أهدر سنواته الحلوة في بلاد الغرب الجليدية قد يدفعه لضرب أوتاد خيمته هنا والمكوث في بلاد الشمس رغم تبدل الأحوال وانقلاب الأوضاع رأسا على عقب لكن من يدري بما يمكن أن يتخذه المرء الذي تشحطط ومل شرب كؤوس التغرب التي تجرعها حتى الثمالة من أنسحق جسده بتلك التجارب وحده يستطيع أن يحدد ما يمكن أن يقوم به من عمل وما يقدم عليه من خطوات صائبة وشطط وحماقات بخصوص حياته المستقبلية..

ـ الحرارة..

ـ أشعر بالحرارة...

ـ وصال .. همس بسماعة الهاتف بصوت واهن يريد أن يعتذر وهو يمج الدخان ويهز طرف قدمه المعلقة فوق القدم الأخرى ويده الشمال تهف بمهفة قشية تحرك الهواء أمام وجهه..ما رأيك لو آخذ منك وقتا مستقطعا من زمن هذه المكالمة ماذا ترين لو أننا نؤجلها لبعض الوقت ثم... نعود بعد أن نأخذ ريستا مؤقتا أقصد الآن وبشكل مؤقت طبعا ثم نعاود الحديث بعد ثلاثين دقيقة أو بالكثير ثلثا ساعة.. شتشوفين..؟

ـ لا بأس لنؤجلها ..لثلاثين دقيقة فقط.. أرجو أن لا تكون عشرون أو ثلاثين عاما كسابقتها ؟.. أدرك ما كانت ترم أليه بهذا التلاعب المقصود ورد بكل ود نافيا وهو ينظر إلى ساعته:

ـ لا.. لا.. ستكون ثلاثين دقيقة فقط وربما حتى أقل من ذلك..

ـ حسنا حتى لو زادت عن ذلك فليست ثمة مشكلة..

ـ أرجو المعذرة .. قال على نحو مفاجئ :



ـ شعرت بحرارة لا تطاق تكاد تخنقني لا أدري أن كان بالفعل الطقس حارا ورطبا لهذه الدرجة,أم لأنني أعتدت على الأجواء الباردة فأصبحت لا أحتمل طقس بغداد الساخن..

ـ منذ ثلاثة أيام ودرجات الحرارة أخذت بالتزايد والارتفاع ..

ـ أذن انتظري مكالمتي ولا تنسي ذلك..

ـ اتفقنا ..

سأعد شايا ريثما تتصل مرة ثانية..

ـ وهو كذلك ..

ـ إلى اللقاء..



صحيح أن أولئك كانوا يلبسون تحت بطونهم أكياس نفايات وزبالة لكن هؤلاء التافهين

الجدد عبارة عن براميل قيء وخراء ملفوفة بقماش موقر ورياء ديني زائف علاوة على جوهرهم الخايس يثير نفورك أيضا مظهرهم المتعفن حتى أنهم أعطوا انطباعا لشعوب العالم الأخرى أن العراقيين شعبا قذرا



وجود مثل هؤلاء في السلطة جعل من البلاد مثيرة للضحك وفاكهة لتندر بقية العالم





العراقيون بدءوا يحرقون بعضهم بعضا ويختمون نهايتهم على الطريقة الهندوسية لكن بشكل جماعي



تنصب نيران الجحيم هذه المخلفات والنفايات هذه الاقدار الطائشة المسوخ تنشر عدواها وجربها في مكان





كنا نظن حين سيسقط دكتاتورنا الورقي سنحظى جميعا بكافة أطيافنا بالمساواة وسنلقى الاعتذار من شعوب الأرض على ما لحق بنا من أضرار روحية ونفسية جمة امتدت لعقود كان يتغافل عنها الجميع لكن ما حصل بعد أن تحقق ذلك لم يكن بالحسبان حيث تحولنا إلى مسرح هزلي يضحك على خشبته القتلة والرعاع والسفلة في أوقات الفراغ

ما

هم يؤدون ذلك الطقس كمحاولة فطرية منهم لأجل أن يكونوا عبيدا أذلاء لهذا الطرف أو ذاك من الذين لهم ثقل سطوة طائفية أو منزلة شوفينية



صومالي يبيع حذاءا أحدى فرداته محترقة



صدقني سينتهون نهاية حقيرة أشبه بنهاية الدكتاتور

بات ما يلفت النظر في بغداد هو أكوام الزبالة

مولعين بالوسخ



كانت عين خيالها تفتح مكتب سفريات للآخرة وتغلقه

لا بد لها أن تجعله يدفع لها سلسلة الفواتير القديمة



رجل يرسم على جدار كونكريتي دبابة يجرها حصان وآخر يرسم طائرة تذرف وردا



ألملم أغبشتي وأشيائي وأصرر عوالقي الطافية في ضباب قلبي لأستنهض قواي الخفية وأبث أغبرتي حتى يتجلى سحري وتتجلى مقدرتي على صنع مياه كافية لتلوين البشر

فكرة جميلة بل فكرة جهنمية هذه التي تؤدي بي إلى التلاعب بأشكال الخلق حيث أني سأجعل من الأسود أبيضا ومن الأبيض أسودا

أبدل أدوار الأمم أسلط هذا على ذاك لأر ما سيسفر عنه قلب المعادلات التي ينسف فيها المنطق,حيث أني أجعل من المتغطرس ذليلا ومن الذليل متغطرسا وأقوم باقتلاع اخضرار الطبيعة من جذورها وأشيل أشجارها وأحراشها وأضعها هناك في بلاد التصحر أجرد هؤلاء من خيراتهم ومن جمال طبيعتهم وأقدمها مجانا لأولئك الضائعين لأمنحهم فرصة العيش ليوم واحد في الجنة

لأرى ما سيسفر عنه من نتائج قلب هذه المعادلة التي تجعل من المتغطرس ذليلا ومن الذليل متغطرسا وما الذي سيكشفه شعور المستبد الأبيض وهو ينقلب إلى عبد أسود يساق كما تساق في المرعى النعجة





في لحظات القنوط المطلق حين يبدأ المحيطين بي يتكلمون من مؤخراتهم يركبني شيطان العبث فألجأ لعين خيالي التي تفتح لي ساحة واسعة يركب منها من هم زائدين عن الحاجة لتسهيل نقلهم إلى مدارج الآخرة أسير رحلات مجانية بلا تذاكر ودون أن يدفع ألي فيها الراكب فلسا واحد عبارة عن مكارف لرفع النفايات البشرية وإلقاءها في ظلمة العدم









بعد أن كانوا العراقيون يطمحون ببناء دولة لها وزنها في العالم صار كل ما يتوقون أليه النوم تحت مروحة لا تنطفئ بعد ساعتين





اشيل شنطتي المعبئة بالملابس والحاجيات القديمة ساعة عاطلة مكواة شغالة قفل باب من دون مفتاح شمعة حمراء أقلام رصاص وورق أبيض بنطلون واسع حذاء قديم قميص نصف كم بلوزة زرقاء صندل بني وقاموس فرنسي عربي

















































الفصل الثاني



تاه ذهنها بين دهاليز وتشعبات هذه المكالمة التي اخترقت ذبذباتها قشرة الزمن وثقبت رؤوس دبابيسها خلايا سنوات الغياب البعيدة التي تسرب فيها شبابها بهدوء من بين يديها بعد أن تركت آمالها تتعلق بحبال من الوهم والانتظار الجارح ظلت خلال تلك الغيبة المفتوحة الأجل التي غدت هي فيها نسيا كاملا بالنسبة له كانت في لحظات يأسها وتحطمها تعد السنين على أصابع الهواء وتلوك أيام عمرها الضائعة مع تسربل الندى وخفوت بحرارة الأشياء

حين يخيم القنوط ويطبق اليأس تتصدع بشاشة الوجوه الضاحكة

وتستحيل الابتسامة إلى تكشيرة قاسية كقسوة الحجر وتغدوا اليدين اللطيفتين أقل نظارة حين تخط عليهما الشرايين ممراتها وهي مسرنمة تعوم في بحيرة الغرام وتخط على دفاتر رجا آتها أن أطياف الحب ستأتي بمستحيلاتها وتنير سماءها السوداء ومدنها المنطفئة

وسيصيف عمرها بعطلة غرامية مفتوحة الأجل ستبرم خلالها هدنة مع الأقدار الطائشة والإخفاقات الماضية وستمتص بما تبقى لديها من شباب وما تحتمله أزهارها من رحيق ورائحة فواحة بمجرد مجيئه..

كانت تستنبط تلك الرؤى اليقينية وتستمدها من أشارات قلبها واستشعاراتها الغيبية التي توحي لها بأن لا بد للأشياء المستحيلة أن تستجيب لنداءاتها الداخلية وأن قوى الغيب سترد بالإيجاب على كل تضرعاتها

كما أن ليس من العدل(كما تساءلت في سرها) أن يخذل المرء الذي يطلب الاستغاثة لا بد لفيزياء الكون أن تستحث عناصرها لأجل إسعافه على وجه السرعة وإلا ستهتز القناعات بوجود الله ويحل الشك بدل اليقين وتعم الفوضى بدل الهدوء والطمأنينة

تراءت لها رؤى ظلاله وهو يمشي بخطى شبحية يدوس بحذائه المائي على صفحات الضباب ويمضي متماهيا على أحجار الرياح العالية كظل متبخر ليلج خيمة النسيان الخاوية ويخيم في وهدة الغمام بهدوء طيفي

بعد أن يتسربل ظله كغيمة أرجوانية ويتلاشى في مغيبه المطلق صوب البلاد الجليدية كان منظره الحزين يرسم صورة شبحية لطير بري عطوف العينين أنحط على حين غرة في قفص بعد أن دوخت دماغه دوامات الهواء بعد أن لف بلهاثه وراء العلائم التي ظن في الوهلة الأولى أنه سيستدل بواسطتها على منازل الخلان بعد أن تطلسمت عين خياله فظل طريقه وهو يبحث عنها من أرض لأرض ومن غربة إلى غربة أخرى كانت شياطينه تطارد ظلمات طيفها وتركض وراء شتات أمسها المتلاشي

وهي تلوذ برحى وهمها التي لا تطحن سوى هواءا وغبارا وأحجار غيما ملبدا وتطلق سيلا من التجشؤات والإجترارات خلف هياكل صوره التي شالتها المنايا بروافعها وحبالها وأسلاكها الكهربائية ذلك ما كانت تثغوا به في أضغاث أحلامها ورؤى صحوها المؤجل:



ظلت تحاكي الأقدار بذهن مشتت وتعقد الصفقات مع أوهام وخيالات لا وجود لها في الواقع تعلقها بذيل طائراتها الورقية المسافرة في الهواء العالي حتى يعود أليها من سفره البعيد كما تعود للأرض المناطيد من رحلتها في الرياح الفاترة ليلملم ما صنعته بها يد الغيب ورؤى الأوهام المبرحة خالته يجيء من بلاد الثلج مشيا على أصابع يديه مشحونا بهوى الأشواق المحرقة لبلاد الشمس وأرض المحبوب ليبر بوعوده ويفي بعهوده القديمة ويطلب منها السماح والغفران

سيأتيها محمولا على بساط من أبسطة الريح التي كان يطير عليها علي بابا في طوفانه السندبادي عائما فوق أتون الريح وسلالمها الهوائية دون أن يشد خيط سيره مشد أو يوجه دورانه قصد محلقا بين رماد النجوم وشظاياها الشوكية وعتمة الغيوم السوداء التي تهطل سأما وكآبة على رأسها على ذلك النحو ظلت تحتدم في رأسها الهواجس والآمال والظنون الخائبة كسماء صماء تتجمع في صيفها السحب وتتفت دون أن تهطل مطرا وتدور الزوابع حول ثوانيها بفراغ راكض كما تدور حول نفسها طواحين الهواء وتلف بشكل عابث لا جدوى منه ولا فائدة مجرد حرث برومثيوسي حرث في تراب الغيوم الثقيلة حرث لا نفع منه ولا طائل

حين استطال غيابه بدأت بالتساقط من سقف ذاكرتها صورة بعد صورة وضحكة بعد ضحكة كنسها جميعا الواقع المر وألقى بها في عتماته ومهاويه ونسيه الجارح

حطة جثمانه مقادير التوقعات السوداوية التي كان يضج بظلالها ذهنها على ظهر نعش محمولا على أكتاف ثلة من المحسنين ووراءه بضعة أصحاب ومعارف جاؤوا من أجل أداء الواجب ربما كان أحدهم يذرف الدمع والألم على جثمانه وربما كان رفيق آخر من رفاقه ينوح على رحيله نوحة عراقية خالصة مع جوقة الأبواق الجنائزية



يوما بعد يوم وسنة بعد سنة أخرى أخذت تشتت ذكراه وصوره التي راحت تمحل بسبب سلسلة الاستفسارات وخناجر الأسئلة الشخصية المحرجة التي كانت تطعن بها من الخلف وبكامل جسدها في كل ساعة وفي كل يوم عن سبب عزوفها عن الزواج وعدم الانخراط كبقية الناس في تكوين عائلة والعيش مع رجل تحت سقف واحد نطرته ونطرت حتى كلت وقنطت خلايا دماغها من الانتظار اللامجدي فقطعت خيط الرجاء من عودته وحتى من اتصاله فقبلت على مضض الزواج من السيد عبد الكريم الساعاتي مسئول الجمارك في نقطة صفوان الحدودية الذي لم يوفر أحدا من وجهاء المدينة إلا ووسطه من أجل أن تقبل بالزواج منه بنت عبد الله الشماس وعبد الكريم هذا كان رجلا مقبول الشكل رجل ناضج عمريا في أواخر الثلاثينات تقريبا أكمل الثانوية وتوظف على طول بوظيفة لا بأس بها من ناحية المدخول والقارش وارش كما هي العادة في هكذا وظائف والده من رهط الشيوعيين الذين كان يؤخذ برأيهم ويستشارون من قبل أبرز قيادات الخط الأول في الحزب أيام كان يمارس الشيوعيين نشاطهم بشيء من الحرية ألقي القبض عليه أبان الحملات التي طالت عناصر الأحزاب التي لا تحسب على التيار القومي الذي كان يرفع الشعارات الحماسية التي لاقت لها صدى بين بعض الفئات من الناس بعد أن تتالت الانقلابات التي كان يقوم بها العسكر في دول العالم الثالث, خرج بعفو بعد سنتين حبس لأسباب صحية في نهاية الستينات بعد أن وقع على وثيقة تعهد بعدم مزاولة أي نشاط سياسي في المستقبل فعاش بعد ذلك بشبه أقامة جبرية في منزله لأنه كان يعاني من أمراض وعلل شتى فمات بعد معاناة وصراع طويلين مع المرض قبل أن تبدأ حرب إيران بأشهر ولده البكر عبد الكريم لم يكن من تلك الطينة التي تدقدق في جوهر الأشياء ولا من الصنف الذي يبحث عن وجع الرأس والجري وراء السياسة وإنما ينصب جل تفكيره على الربح حتى لو كان تحقيق تلك المآرب يتطلب الانخراط في أية جماعة سياسية لتسهل له الأمر كان على استعداد تام إن كيف يملأ جيبه بالدنانير ومن قبيل ما مصلحتي في ذلك وكم سيدخل في كيسي من هذه وماذا سأنال من تلك

كانت المسائل بالنسبة له مسائل حسابية بحتة ولا تخرج عن هذا الإطار وحكمته الأثيرة التي كان دائم الترديد لها حين تسخن النقاشات بين أصحابه وبين أخوته عن الأفضلية بين السياسي التقدمي والسياسي الرجعي كان يقول قولة خاله الذي كان يعير في جلسات العائلة بأنه حيادي... يقولون عنه حياديا ويعنون بها انتهازي صرف

ـ كل من يتزوج أمي سيصير عمي... وأمه المسكينة كان يكفهر وجهها حين تسمع منه هذه الجملة التي كانت تشمئز منها وتسكت على مضض وأبوه محطم الأعصاب كان يضرب كفا بكف ويقول بألم :

ـ صدق من قال أن النار تخلف رمادا..ويعضض على أبهامه ويسكت مغتاظا ويقول بقهر:

ـ انتهازي لئيم على من طالع هذا الأنبطاحي الممالق؟

أنظم إلى حزب البعث في بداية شبابه وكان مشكوكا بأمره بسبب خلفيته العائلية فوضعوه تحت الأعين المفتوحة (حسب ما أصطلح عليه آنذاك )حتى مر من الاختبارات التي أخضعوه لها ولم يكن يدري عنها شيئا وتأكدوا من أنه شخصا لا يمت بصلة لما كان عليه والده واكتشفوا أنه يشترك معهم بذات الخصائص والتطلعات فرفعوا ملفه للجهات العليا للبت بأمره فجاءت الموافقة بعد أيام مع ملحوظة قصيرة : نعلمكم طيا بعد أن تأكدتم من سلامته الفكرية أن لا مانع لدينا من فتح باب الانتساب الكامل للحزب

له ولأمثاله من الشباب الذين وجدوا أنفسهم في عائلات منحرفة التفكير ناقة ولا جمل له بما كان عليه والده الرجل لا يريد شيئا أكثر من أن يخدم ويعيش وأن من يتزوج أمه سيكون عمه حسب ما يقول وما هو بين

فعينوه مسؤولا حزبيا على جمارك البصرة بعد أن فتحوا له الأبواب التي كانت مواربة وأطلعوه على حيثيات عملهم الحزبي فمال بحساسيته العالية صوب صف المستأثرين بالمغانم فحط يده على وظيفة من خلال هؤلاء الذين كانوا يسمونها رفاقه ماكنة الدنانير السويسرية فمسك ملفات الاستيراد والتصدير وتعاملات القطاع الخاص والعام وعينه كانت كعين الصقر تصطاد كل ما يدخل عبر مركز صفوان وعبر نقاط الحدود وما تعثر عليه شرطة الحدود من بضائع مهربة بعد فترة وجيزة كما تحط عين الصقر على طريدة بوظيفة التي بنا من خلالها بيتا فخما وأقتنى سيارة حديثة وأثث داره بأثاث من الهند تم شحنه من قبل العميل التجاري في السفارة العراقية في نيودلهي مع ثلاثة كلمات كتبت على ظهر فاتورة الشراء (يدللون علينا الرفاق)مذيلة بمزحة لم تعجبه

ـ حتى لو طلبت منا أن نشتري لك الممثل شامي كابور لاشتريناه وأرسلناه لك في قفص بشري كصقر مذلول مع قطع الأثاث

جلب الأثاث الهندي بسيارة حمل سخرة بعد أن وصلت الشحنة إلى مينا أم قصر على ظهر باخرة الفيل البحري المحملة بالبضائع والسلع المنزلية التي كانت تصدرها الهند للعراق بموجب اتفاقية تبادل التجارة والتصدير المشترك وزع الأثاث الهندي في البيت من غرفة نوم إلى الصالون إلى المطبخ وأرجوحة الحديقة ثم فرش الأرضيات بسجاجيد فارسية استولى عليها من مهربين عجم وعلق بعض اللوحات التي أشتراها من أحدى المحلات المتخصصة في بيع لوحات كبار الفنانين العراقيين وحين شعر أن لا شيء ينقصه سوى عروسة حلوة يفخر بجمالها حين يقدمها لرفيق من رفاق الحزب الكبار وحين يعلوا شأنه في الحزب ربما تصبح زوجته سيدة مسئولة ترأس مؤسسة من المؤسسات أو وزارة من الوزارات لم لا المسألة مسألة وقت ريثما يتغلغل أكثر فأكثر وحين تتشابك المصالح ساعتها سيساوم وتضاحك قائلا لنفسه:

ـ كل من تغلغل وصل..ههههههههههههههههههههه...وختمها بــ ..أيه دنيا..

وتحمس أن يأخذ بعضا من وجهاء الكرادة لبيت عبد الله الشماس لطلب أبنته وصال وبالفعل قام بذلك لكن رد طلبه بتهذيب من قبل شقيقها ووالدتها لكنه لم يكف عن توسيط الشخصيات المهمة في المدينة مرات ومرات حتى تمت الموافقة في نهاية المطاف

..

* * *

تزوجها بعد أن أستخرج عقد النكاح من النفوس وتمم إجراءات الزواج الرسمية بحفل عائلي بهيج حضره الكثير من العاملين معه في نقطة صفوان وخفر السواحل العراقية جاؤوا متجشمين عناء السفر وطول الطريق الذي يمتد لمئات الـ كيلو مترات ملبين دعوته عن طيب خاطر حتى أن البعض منهم قد فضل أن يأتي بلباسه الزيتوني

أقيم الحفل في واحدة من قاعات الأعراس الراقية التي تقع على مقربة من ساحة الأندلس في بغداد وأعطى الأمر لراعي الحفل بتأجير فرقة شعبية مختصة بأحياء الحفلات وتكفل بجلب ثلاثة مطربين هواة مهووسين بتقليد الأغاني العربية والأجنبية الراقصة المطلوبة في الأفراح

وذهب لمنطقة الكمالية وأستأجر خمسة راقصات جميلات من الغجر مع اثنان من الدنبكچية البارعين مع صندوق عرق زحلاوي وعشرة صناديق بيرة من نوع لؤلؤة وشهرزاد وفريدة زائدا كميات من علب العصائر والبيبسي كولا والكاتوهات التي توزعت على الموائد

غرف الرجال من دلاء العرق المثلج قبل أن تباشر الفرق الرقص والغناء بنصف ساعة وكان الأمر متروكا لمن يريد أن يشرب بيرة أو عرقا أو من العصائر بشرط أن يراعى الهدوء فبدأت الفرقة عزف إلحانها الراقصة وغنى معها المطرب أغاني عراقية وسورية ومصرية ولبنانية وحين سألوا العروس أذا ما كانت ترغب بأغنية بمناسبة زواجها لم تتردد بطلب أغنية نجاة الصغيرة (في وسط الطريق)فاعتذر كادر الفرقة عن أداءها لعدم معرفتهم بكلماتها فأندهش العريس وتوجس سرا من عنوان هذه الأغنية التي تشير إلى منتصف الطريق لا يدري أن كان قد سمعها في الراديو من قبل أم لا وفكر أنه سيبتاعها من محلات الشرائط الغنائية في الصباح التالي لليلة العرس ليتعرف على الطريق الذي تقصده كلمات هذه الأغنية التي تعذر على الفرقة معرفتها

فهمس عريف الحفل في أذن عبد الكريم عن الأغنية التي يحب سماعها فصاح واحدا بصوت عال من بين الحفل بعد أن أدارت الخمرة رأسه وفعلت مفعولها

ـ العريس ,العريس

فصاح جمع من السكارى وراءه:

ـ العريس, العريس ... مع صوت كهكهة ضحكة جماعية كادت أن تعكر صفو مزاج العريس وتخرجه من طوره لولا مباشرة الفرقة الموسيقية ألحانها فغطى تصاعد صوت النغم الهندي السريع على ضحكات هؤلاء وساهم نهوض بعض النسوة من أقارب والدته بتلافي الموقف بعد أن حركتهن الموسيقى فرقصن بين موائد العائلات ثم أعيدت الأغنية مرة أخرى

وتناوب المطربون بكل حماس على أداء الأغنية الراقصة التي رغب بها العريس طمعا بالبخشيش والهدايا التي يمكن أن تقدم لهم في نهاية العرس خصوصا أنه ليس عرس واحد طگ عطية حسب تعبير القيم على أعداد الحفلات الخاصة

ـ هذه حفلة عرس رجل جالس على ماكنة دنانير سويسرية... رجل له وزنه في الدولة...

حسب وصف السمسار الذي قام بجلب الفرقة ومطربيها وجهز المشروبات الكحولية أسواق أبو شاكر والروحية من متجر صليوة

كانت هي أصغر منه بقليل





خر صوته في أذنها كخرير الماء من صنابير السماء جاءها الندى بكل توقعاته وعبث نسيانه ليسيل في بحرها المتلاطم

كاشفا عن حقيقة الأقدار الطائشة وعن فظاظة منطق هذا الوجود وجوهه سفيهة ومؤكدا على حقيقة ربما تغيب عن الأذهان من أن الكلام مهما كان فجا إلا أنه يبقى أكثر نبلا من الصمت

والبشر بطبيعتهم لا يحبون الظلام إلا من يخشون ضوء النهار وهؤلاء سديميين عبابثة



الخرس بفظاظته والصمت بسكونه السديمي حيا نابضا في أزمنة الموت في توقيتات خصصت لحدوث المعجزات ووقوع الخوارق من أرض الواقع وتلاشت فيه الكرامات الحقة وحلت فيه بعد سلسلة عهود الاستبداد والضغائن, مشاهد الذبح وبقر بطون الحوامل وتعليق الجثث بإطراف الأشجار وبرؤوس أعمدة الكهرباء ومشاهد السحل والاغتصاب والقتل بالمثاقب الكهربائية وكواتم الصوت وحرق جثث الموتى على الطريقة البوذية ولكن بحفلات شواء جماعية قرى بكاملها تلغم وتهد على رؤوس ساكنيها عائلات تقتحم دورها في وضح النهار وتنحر بصغيرها وكبيرها على مرأى من العالم المتفرج دون أن يكترث بما يحدث لهذه البلاد وأناسها هذه عينات من سلسلة الحقائق التي جثمت فوق صدر بلادنا الممقوتة التي تغطت بأردية الظلام وأوشحة المصائب وأسطورة الشعب المسلح الذي بات أمثولة في احترافيته وفنيته في خلق المآسي وذر الرماد فوق الرأس وشق الزيج على أطر كارثية ورهط هذه الكوميديات والفظائع التي تتهاطل فوق رؤوس هؤلاء لا أدري لم كل هذا التمادي بإطالة هذه المهزلة وعدم التعجيل باستحداث تسونامي ترابي يهلكهم جميعا أو يجرفهم بالكامل ويطيرهم كما يطير ذرات الغبار في الهواء ويلقي بهم بين أطراف صحراءه ويهيل عليهم رماله وترابه ويقتلع المشكلة من جذورها ويفرث آدم بيضته ..



عاد من جبه يوسف الجديد انبثق من باريسه أو بروكسله كما ينبثق طائر العنقاء من بين الغمام, حطت قدميه فوق تراب الوطن في أسوء حال وأوسخ مآل تمر به البلاد لينقر على طبلة أذنها بذبذبات صوته المنسي يسأل ويستفسر ويترتر

بطريقة متقشفة عن تفاصيل حياته الأوربية الغامضة بلهجة ترشح منها المرارة والجزع كأنه يريد أن يعبر بواسطتها فوق الحقائق المرة التي ترك علقمها يتضخم ويزداد مرارة على مدار الساعة في نفسها لسنوات وسنوات تحولاتها المكانية والعاطفية دون أن يذكر لها أسبابا منطقية لا تقبل الدحض أتاها بكلمات مفرغة من محتواها,محض كلمات يستطيع أن يتشدق بها أي متملص من المتملصين وأي مداهن ينشد الهروب من المسؤولية والتنصل من العهود التي قطعها على نفسه ألم يكن الأحرى به أن يعتذر بوضوح كما كانت ترجو في الأشهر الأولى لانقطاعه ويعبر لها عن أسفه وعن تحمله الكامل لمسؤولية تلك الفعلة وأن يبرهن لها عن استعداده لتقبل كل ما يمكن أن يتم تحميله إياه من لوم ومن غضب وإهانات من الممكن أن تنزلها به كان عليه أن يفعل ذلك قبل عشرين أو ثلاثين عاما قبل أن يرتكب ذلك الفعل غير المبرر وأن لا يدعها معلقة بحبل هواه وحيدة تتشوى على مكواة الزمن والانتظار موصدة بابها بوجه الخاطبين كأي نبيلة من نبيلات الأصل والنسب قطعت على نفسها عهدا أن لا يفتح باب قلبها لأحد بعده...

قيد أنملة

وبالفعل ظلت على ذاك الحال لسنين وسنين وشبابها الغض كان يصفر شهرا بعد شهر كما تصفر أوراق الأشجار في الخريف وتذوي بعد أن تتجرد من كامل أوراقها

كانت ترى شبابها يتشقق تحت نير نكث العهود وتبدد الأحلام وأنمساخ كل ذلك الكلام عن المشاعر الراسخة والعهود الوثيقة التي لن تقدر عواصف الدنيا وأعاصيرها من زحزحتها..



لكنه تخلى عنها بكل بساطة ومضى ليتزوج ببلجيكية شغفته بصفرة شعرها الذهبي وزرقة عينيها وبقوامها المفتول اجتذبته بطريقة عيشها وبحرية تصرفها فسلم كيانه لجريان تيارها فجرفه موجها لتلك العوالم التي لا تعرف النساء فيها العيش وراء الأبواب وفي الظلام متعودون منذ الصغر أن لا يلعبوا لعبة الحب خلف الكواليس كما نفعل نحن يمقتون عدم الوضوح في المشاعر , لذلك تراهم لا ينسجون قصصهم إلا تحت ضوء الشمس وذلك ما بهره فانشد لهذه التلقائية المطلقة التي لم يألفها في جنس العراقيات حيث أنها أخذت تقبله على مرأى من الناس في المقاهي وفي الأسواق في الباصات والقطارات وتشاركه احتساء أقداح بيرة الأمستل الهولندية والدفل البلجيكية الفاخرة

مرت الساعات والأيام كما تمر الأحلام الجميلة سريعا حتى اجتمعا في خلوتهما الأولى بين جدران أستوديو صغير استعارت مفاتيحه من صديقتها الأسبانية التي كانت تعمل موظفة في نفس البنك والمسافرة لبلدها بأجازة صيفية قد تمتد لأسبوعين أو أكثر فنضت عنها ثيابها الخارجية وعرت لحم صدرها بعد أن ملصت حاملات الصدر وألقت بها في الأرض وبقيت بالكلسون فلاح لها شيئه يتناهض تحت لباسه ويتورم حتى أصبح كأنه وتد يرتفع تحت قماش خيمة قبل نصبها وأن لم تتداركه على عجل فسينفجر ويتناثر لهبا ونارا تحرق جدران الأستوديو فجردته منه وتجردت هي من كلسونها برمشة عين وطرف حاجب وركبت عليه كفارسة متمرسة تركب على حصان هائج تريد أن ترغمه على الطاعة فشالها في فورته الأولى وشالته ثم تحاملت على غرزه كاملا في لحمها فرفس في مكانه مثل تمساح يائس غطس بركة طينية بكامله فاختنق وتجشأ بعد موجة لهاث ومنازعة دامت لدقائق في باطن لحمها الهش وتخبط في ظلمته كأعمى وقع في حقل صمغي

لم تكن بحاجة إلى تدريبات وتمرينات على كيفيات الهبوط والصعود

فأمسكت لجام حصانها مسكة الواثق وخاضت معه الحصة الأولى ثم الثانية فالثالثة ولم يكن قد أنقضى ظرف أسبوع على صحبتهما حتى اصطحبته معها لمنزل العائلة وقدمته للأهل

عرفته عليهم واحدا ,واحدا

فرحبوا به بود ولطف شديدين بعد أن تعرفوا عليه واحترموه كما يحترم الرجل العربي ضيفه وقاموا بإشراكه بكل احترام في أحاديثهم العائلية

فتغد وتعشى معهم وشرب القهوة والشاي وحين حل الظلام ذهب الأهل لغرفهم تباعا الواحد تلو الآخر بعد أن حان ميقات نومهم وكأن الأمر كان مخططا له لترك البنت تستريح مع صديقها كما لو أنه قد تزوجها على سنة الله ورسوله لا كعادة كذيك العراقية التي لم تسمح له حتى بتقبيلها ولم تدعه يلمس يدها خارج نطاق المصافحات لم تسمح له بتاتا بأن يلمسها لمسة ذات مغزى

فلم تخلف تلك العلاقته أي أثر غريزي أو ذكرى حميمية سمت على ما هو سائد من نظم وأعراف بالية ما أنزل الله بها من سلطان فتساءل على نحو :

لم لا

أتنصل من وعودي الكلامية التي قطعتها على نفسي لتلك البنت وأمضي مع ريح هذا الهوى الطازج وأنسى ذكريات الحب الشفاهي الذي أذا ما قارنته بهذه الكيفيات وهذه الأجواء سيبدو لأي ساذج بلا طعم ولا رائحة لأتخلى عن تقمص صورة العاشق الولهان المخلص وأحتفن بيدي وبقدمي من طراوة هذه الحقائق اللذيذة وأدع كل مفاهيم الحب تلك المحصورة بالكلمات والإيماءات والإشارات المواربة وأنخرط بممارسة فعلية أستطيع أن أطبق فيها كل مفاهيمي ونظرياتي في حوش هذه العائلة المفتوح لي على مصراعيه وأزاول أفعالي وألعابي الجسدية كما أشاء وبكامل حريتي ينبغي علي أن أواصل ركضي وراء لذتي وأدع تلك التكتكة العاطفية التي كان يشتغل قلبي على وتيرتها تلك الثورة الجوفاء وذلك الفوران المتبخر في الفضاء الواسع أظن أن جوهر الحب لا يحتاج إلى نظريات وخرائط لأن مركزه لا يحتاج للف والدوران الفارغ هاهو بين فخذي هذه الشقراء البلجيكية أملاك آدم وعرشه ومصب بيضته يكمن تحت صرة هذه البنية وعمود العدل الذي ينتصب بين ميزان الكون لا تقبل استقامته أي تشكيك أو الجدل وطراوته معادلة يرتكن لها الأضداد لحل لفك أحزانهم وأتراحهم وتبديد سأمهم وسيل كل ما يختزنونه من براكين رعدية هذا هي بحرتي التي ستشطفني وتمتص ملحي وفيضي المتطاير

لأنسى الماضي وأؤسس معها أسرة مثل بقية الخلق تقوم على الهجين أولاد بعيون حشيشية وبنات شقراوات يرطن بلغات عدة ويربربن حولي في أيام الأعياد بأغاني أجنبية لا أفقه منها شيئا وأعيش وأقضي عمري في هذه البلاد الرخية وأستقر مع هذه المرأة التي رماها الحظ في طريقي كما لو كانت هدية من السماء ,هدية من الله قدمها ألي كفدية تقدم لشاب شرقي مسكين وصل بلاد الغرب بعد مشقة ومعاناة وتعب كبير فتاة شقراء جميلة يسيل لجمالها ورقتها اللعاب بنت ذكية تتحدث عدة لغات حية لغات يتحدث بها أحسن خلق الله على وجه هذه الأرض لغات لا تجيدها أي عراقية في هذا العالم

وبنت بلد تستطيع أن تحل لي كل مشاكلي امرأة مثقفة وتعمل في بنك استثمار بريطاني بمرتب لا بأس به من شأنه أن يعيلني ويعيلها على أحسن وجه ريثما أقف على قدمي من جديد وأتخلص من تلك الحياة القلقة التي هربت منها بقدرة إلهية وعندما وصلت إلى باريس وجدت أبواب الجحيم قد فتحت لي خصيصا على مصراعيها فلم يكن أمامي من مهرب سوى العودة إلى حنيني الأول إلى دنيا الذكور فعشت حياة المرمطة والتقلبات الصعبة بأبشع صورها حيث أني تشردت في شوارع باريس ونمت في باطن مترواتها فتحت أبواب السيارات الخاصة في أنصاف الليالي ونمت في داخلها حتى الفجر وأنا أرتعد من شدة البرد قلبت الأوجاع والمسرات على كافة أوجهها وعبرت منهزما في نهاية المطاف من تحت قوس النصر جميع أضواء مصابيح باريس كانت ظلاما دامسا بالنسبة لي لا سينها ولا إيفلها ولا حتى لوفرها كان يمثل شيئا لمنبوذ مثلي أكله البرد والجوع لكن في باريس من السهل عليك أن تلوط فذهبت لتلك الأماكن بعد أن أغلقت الأبواب أمامي سوى أبواب الجحيم فلجأت لمزاولة تلك العادة من معظم الناس فصار يتنافس علي الفتيان من أجل أخذي إلى بيوتهم وشققهم وراحت شهرتي تنتشر بشكل مدوي بين نوادي الرجال حتى صار أسمي أشهر من نار على علم في أرجاء باريس كلها بل حتى في مدن فرنسا جميعها كنت أمثل الفحولة التي يفتقدها الغرب البارد كنت بالنسبة لمعشر الجنس الثالث كفاتح أسطوري جاء ليحرر العبيد من مستعبديهم

حتى لو تزوج وخلف هناك فمن يضمن أن لا يساق أولاده للجيش ويلقون حدفهم في معركة من تلك المعارك والحروب التي لا أول لها ولا آخر حيث أن ما أن تنطفئ حربا حتى تنشب أخرى

وهي تجيد الفرنسية والانجليزية والألمانية والهولندية وبإمكانها أن تتعلم العربية لو أرادت ذلك

هي كذلك من عائلة تبدو طيبة فلم لا يوطد علاقته بها وينسلخ من عالمه القديم

ذلك العالم اللعين الذي لا يتوفر للمرء فيه غير العوز والبؤس وضيق الخلق رغم أنه يعي أن وصال بنت مكافحة ولا يعوزها شيء ويعرف أنها بنت عائلة عراقية عريقة المنبت وتدرس الأدب الفرنسي في جامعة بغداد وتعيش ببحبوحة ويسر من الناحية المعيشية



لكن ما للشرق, يبقى للشرق وما للغرب يظل للغرب ومن الصعب الخلط بين حياتين حياة تمشي بالعرض وخائفة من كل ما هو جديد وتجتهد من أجل أن تحتفظ بما لديها من قيم وخرافات بالية عفا عليها الزمن وأخرى تمشي بالطول وتتقدم باطراد ودون أي عائق نحو المستقبل بسرعة صاروخية ولا تتقيد لا بالنواهي ولا بالوصايا العشرة ..



ـ سأواصل سيري الحثيث بين جوانح هذه الحياة وأدع قلبي في مكمنه يتذكر مسرات ماضي تلك الحياة اللئيمة التي عفتها في الشرق سأدع مطارق النسيان تدق على رؤوس نوابض الماضي حتى تنطحن مغاليقه وتتفتت صوره وتبترد خلجاته وتكف عن التذكر بعد أن ينغمس قلبي بذكرياته ومسراته الجديدة



لكن البنت الشقراء صاحبة القوام الملفوف ومجيدة اللغات الأربع سرعان ما ملته بسبب شذوذه الجنسي الذي فاق حدود المسموح وغدا خارج الأطر العائلية وثبت لها بشكل جازم عدم أهليته لتحمل المسؤولية

جزعت من نومه الطويل ومن تناوله المفرط للطعام والشراب لآخر الليل وكسله العراقي العجيب فألقت به في الشارع دون أي رحمة كأي جرذ شاذ مثير للتقزز والاشمئزاز لا يستحق منها غير النفور والاحتقار

لملمت خرقه وحشتها بحقيبة تحمل على الظهر ورمتهما معا هو وشنطته خارج البيت وحذرته من العودة ثانية وأنها ستسلمه للبوليس إن تجرأ على طرق بابها من جديد



ـ أغرب عن وجهي أيها التافه... وصفقت الباب وراؤه بعد أن ألقت بثيابه في الشارع

ـ خذ وسخك وأمض لجيمسك القذر ..

لم تستطع تلك الاعتذارات وألوان المواساة أن تمحي ألم الذكرى وسنوات الخذلان والانتظار الذي ظل مفتوحا على اللاشيء لأعوام وأعوام

لم يستطع صوته المربت أن يخفف من أحساس الألم الذي استعادة أوجاعه بمجرد أن تسرب لسمعها صوته المألوف عبر أسلاك الليل المكدر التي تعجب كل العجب لعملها بين كل هذا الخليط من لفائف الأسلاك التي يستحيل عدها ومعرفة وظائفها

أسلاك تغذيها المولدات الوطنية العامة والمولدات الشخصية الصغيرة بالطاقة الكهربائية والضجيج ليمسي عليها ويحييها ويسألها عن أفراد العائلة ويشاركها الألم لغيابهم ويواسي ويعتذر بصراحة وأحيانا أخرى بمواربة

ضرب على طبلة أذنها بذبذبات صوته المتلاشي من بطن هذه السماعة البيضاء مخترقا سواد الليل كما يخترق الموتى ليل قبورهم ليعودوا لجحيم الحياة السعيدة ويقارنوا بين ما هم عليه الآن وما كانوا عليه في الأيام السالفة



عاد من جديد من تحت ركام السنين وجليدها ليعيدها إلى نقطة الصفر إلى هواء الذكريات الغضة وصور الأحلام المؤجلة التي أبت أن تخضع للنسيان واستعصت في ذات الوقت على الإفصاح وإلا فضاء بأي أشارة أو لمحة من شأنها أن تكشف عن مشاعر الصبا وذكريات الأمس التي توارت خلف مسحة التريث التي أملاها التقدم في العمر وحالة التردد المقلقة والتعامي عن دق المسامير أو الطرق على رتاجات أفلاك الأمس البعيد لأفتتاك قيوده والتحرر من أصفاده وأثقاله

عاد كما يعود ابن ضال تنغل في بلاد النغووولة حتى عاد كنغل بعد أن بلغه أن أبيه التاجر قد مات

أبن تاجر عتيد وحيد أبيه المدلل عاف دراسته في الخارج وعاد بعد أن مات أبيه بالسكتة الدماغية المفاجئة تاركا تجارته ومخلفا بضائعه المبعثرة نهبا للطامعين ومرتعا لشره عيون الوارثين من الأقرباء وبعيدي الصلة ونضيدة من دفاتر ملأى بأرقام الحسابات وتواريخ الديون المؤجلة القابلة للإنكار من طرف المشترين بفواتير لم يجري تسديدها ومتعلقات أخرى لم يحسم مصيرها بحاجة إلى جردها ومراجعتها من جديد بعين شيطانية شديدة التبصر والتدقيق



هبط في غفلة زمنية باهرة كأنه ظل من وشالة متلاشية وانبثق من بين براثن الزمن وحل فجأة هاهنا بين ربوع المأساة ربما ليكيل سنوات عمره الضائعة في البلاد المحطمة أو أنه جاء ليقارن مابين رفاهيته الأوربية المحدودة وبين بؤس وغليان قيعان هذه البلاد التي غمر أفقها الوحل وغطتها الحقارات وتسيدها العبث الفتاك هاهي الشوارع تبدو للرائي جرداء بلا بشر ولا شجر خالية من أي نسغ وأي فسيلة أو شتلة متسلق تعتلي شق من شقوق هذه الجدران الكالحة المتربة,

مجرد محيط مترامي الأطراف يمتد تحت سماء ترابية واسعة لمن يمد النظر في امتداداته ويطالع بإمعان بما يتشكل من حوله من ما تبقى من بضعة دور لم تزل صامدة يحاصرها الخراب والركام من كل صوب واتجاه ,

مدى مفتوح يفضحه العري الكالح ويبرقعه الغبار ويلوثه البصاق واللعنات والشتائم المتبادلة هذه الحياة المرحاضية الوسخة التي أضعت نصف شبابي غاطسا في خراؤها وعفنها عدت من جديد لأتجول مثل أخرق بين أزقة المدن المهانة لا أدر لعلي بحاجة لملأ رئتي بهواء أشلاء الجيف المتناثرة على نواصي الشوارع عدت لأجتر العفن وأنا أعتلي ربى أكوام النفايات كديك من ديكة الفجر الغبية تدفعني رغبة بلهاء للصياح بأعلى صوتي وأعو عي كما يحلو لي على دجاجاتي من أعلى مكان من على قمم هذه المزبلة الفارهة لعلي أبرهن بأنني ملك الروائح والنتانة والزبل..

عدت بعد أن بدل المسوخ والقتلة ثيابهم المدنية بخرق وثياب بالية ليبرهنوا للشعب المغفل على زهدهم المضلل وليأخذوا بيد الحشود الجائعة ويحجوا بهم إلى عوالم السحر ويدخلونهم أفنية الجن والشعوذة الخادعة وقراءة الكف وفك الطلاسم وسبر سرائر الألغاز والأحاجي ليربطوا مصائر هذه النعاج بحبال الغيب الواهية لكي يحكموا إغلاق الحظائر والزرائب والروث والعفن



جئت لأشاهد هؤلاء الجرابيع عن قرب لأر أفعالهم الرحيمة جئت لأطلع على حقيقية التوظيف الذي لا يتم إلا بعد أخذ الخيرة يا لها من رأفة مضحكة من يفرق لي بين قاتل وقاتل آخر أليست المدية مدية أم أنها ملعقة في عرف العمامة الجهنمية أيمكن الفصل بين من يقتل بدم بارد وبين من يرتكب ذات الفعل بدم فائر من الأكثر قسوة والأشد بطشا والأكثر فظاعة في عرف محمد هل لي أن أفاضل ما بين الخراءين بين الخراء القديم والخراء الجديد الطازج واستخلص من بينهما الأكثر عفنا

وهل هنالك خراء منزل من السماء وخراء تخترئه مؤخرة بلا غطاء ديني

وأتفحص سير وحكايات ممن عادوا من مهجرهم الاضطراري ومن عادوا من منتكحهم الأسترزاقي لينبشوا هؤلاء المتسولين بظيز هذا القطيع الهائم على وجهه في أرجاء هذه الأرض المقفرة

هجعت الضفادع واستكانت حيتان المدينة,بعد أن أمنت لدغ الأفاعي وسمومها فتسربلت فيروسات الحيالين من المشايخ ملوك التيجان القماشية واللحى المچكنمة بتقية شديدة الورع..

تغطي على رياءها الأصوات المضخمة التنغيم لترسيخ الدجل ومنح شهادات الرياء

سأرى هؤلاء العيارين عن قرب سأرى كروشهم المتهدلة ولحاهم المنسدلة سأستمع لنفاقهم ورياءهم وأرتال المتسولين والمتكسبين الذين عادوا ليعظوا الشعب المحطم ليتعلم الزهد وليجنبوه الزلل والانحراف والشبع هكذا هي دائما البلاد العجائبية الجبانة تجعل من نفسها مرتعا للقطاء ومحطة يستريح فيها الرزيل والضحل والعاهر هذه بلاد لا يحكمها إلا التافهين صدقوني لا أحد فيها غير التافهين لا أحد غير رعاع الريف وبلطجية المدن هكذا كان الحال في عهد السفلة وأولاد الزوان والمأفونين حتى تم تسليم البلد كفدية لأئمة الجهل ورهط من الرعاع وصائدي الذباب وملوك الولائم والثريد والسحت الحرام حل بين ظهراني هذه البلاد محرمي الخمر ومحللي الدم الذين جعلو من العراق وليمة لا يجتمع عليها إلا أولاد القحاب والعاهرات والمخنثين كما تتجمع سحب الذباب على فطيسة لتمتص دمها المسفوح ,بلاد السفلس والجذام والزبل الجبانة التي أناخت ظهرها لهؤلاء البليدين وأقوام لوط وماسحي الأحذية والمخنثين وسلمت لجامها للمخربين والقتلة وناخت تحت نير ضربات السحرة والمشعوذين كما تنوخ النوق الكليلة تحت أحمالها الثقيلة في الصحراء اللاهبة التي ظلت على الدوام تفتح أشداقها لتبتلع أبناؤها البررة ولم ترفع يوما من شأن أحد غير الأنذال ومرقعي الأصل والمأفونين نابحة أتاها صوته الذي كانت تحفظ ذبذباته وترجيعاته وهو يتململ حياة وواقع كل ذلك التاريخ الطويل من الغياب والانقطاع وخيمت من جديد ظلال حضوره البعيد تهاطل من وشالة الغيب وعوالم النسيان والمستحيل ليفتح بصوته المخرخش كوة بين جدران رعبها ووحدتها الصماء التي كانت قد ضربت أطنابها ونصبت خيام كدرها على صفحة سماؤها السوداء..

عاد ثانية في زمن غير ذاك الزمن الذي كانت هي فيه لم تزل فتاة بعمر الورد متألقة تنعم بالجمال الأخاذ وتسير بخيلاء بين رفيقاتها الحلوات بين شباب الكرادة المعجبين بجمالها اليافع الذي كان ينموا ويتفجر يوما بعد آخر على مرأى الأهل والجيران والأقارب وهي منتشية بذلك الإعجاب الذي يزيدها سحرا وفتنة تكاد تطيرها الأحلام وتشيل قدميها وروحها عن أرض الواقع حل من جديد ليشوش ويعبث بدنياها ليرجع بها إلى الوراء إلى واقع ذلك العالم الذي كانت تنعم فيه بفتنة الشباب وحيويته بين أفراد أسرتها كانت تنموا أحلامها كأي بنت من بنات بغداد أيام زمان فتاة يافعة تتفجر فتنة وتصبوا لبلوغ شيئا من أحلامها أحلام الشباب التي لا تسعها مساحة هذه الحياة بعد كل تلك السنين التي يصعب عدها عاد لكن هيهات للأيام الجميلة أن تعود لسابق عهدها خصوصا بعد أن غدت بغداد خرابا بخراب كالمدن المندثرة بالركام تئن تحت مشاهد الرعب وأغبرة الرصاص ونيران القذائف وظلال أشباح الأنفجارات العاوية ودخان الحرائق ووجوه الشوارع الكالحة التي تدفن خيبتها وعارها خلف أسيجة الكونكريت بغداد الآن ولت مثل خرابة محطمة السقف ومهدودة الجدران ومهلهلة الأطراف ومقطعة الأوصال خرائب وأطلال لا تستحق إلا الشفقة والرأفة والنعي وأناشيد الرثاء والدموع



بات حالها يبين من أنها ليست سوى زريبة أو خيمة تحترق في داخلها مجموعات من البشر يتنازعون فيما بينهم على الغنائم في صدر كل واحد منهم يكمن الحب وتكمن الضغينة كل الأضداد تعشعش وتجثم فوق صدور العراقيين كل الأضداد الظاهرية والباطنية لا يحملها شعب آخر كما يحملها العراقيون فتكت بالبلاد عاد مدفوعا برغبة كبيرة بعد انقطاع طويل ليرى الخراب بأم عينه ويشاهد الدمار عن قرب حتى يتمكن من استعادة صورا تلاشت من دهاليز ذاكرة غطت بسبات منفوي أعطب تواصليتها مع الأمكنة ونتوءات البنايات القديمة التي أقامها الأتراك هاهنا على ربى هذه الأرض, شوارع بغداد مقاهيها وباراتها وسينماتها التي أضحت بفضل المحرمات والتابوات الدينية أوكارا للمجرمين وللمثليين والحشاشين ومخازن لبضائع الباعة المتجولين الذين افترشوا أزقة بغداد القديمة وشوارعها وأحياءها الثكلى التي ولت تعج باللصوص والباعة تجار النخاسة وأكوام النفايات وأنقاض الخراب الذي تراكم في كل مكان,لم يستثني الهول مطرحا من المطارح إلا وقلبه وأنزل بكل جانب من جوانبه الد التي أصبحت تصدح فوق حطامها وركامها أصوات البوم ونغيط الغربان وأفواه الكلاب اللاهثة والمتلهفة لحدوث الكوارث

حسبة لا يقدر على جرد أجزاؤها إلا قلة من البشر تصفية أخيرة لفوضى تاريخية وعبث أبدي لا نظير له باخرة بسعة بلاد معبئة بمئات الأطنان من الطماطم المتعفنة والوسخ وانفتقت أحواضها المعدنية ورتاجات أبوابها الخشبية على حين فجأة وتدفق هذا السيل من هذا الخليط الخرائي مندفعا كشلال هادر من جوف عنابرها وأنصب كما تنصب مياه المطر فوق بحر هذه اليابسة التي يسمونها العراق فتلوثت كل دابة تدب على سطح هذه اليابسة بسوائل تلك المياه الصفراء المختمرة العفن



عادت إلى ملهاتها التذكاراتية التي تجتر من صورها لقى الماضي ومواجعه مباهجه ومناكداته عادت لحافلة الأيام السعيدة لبساط الريح والشطحات السندبادية بعد أن أرجعت سماعة الهاتف إلى مكانها وأخذت تطالع في عدد من الصور التي بين يديها فبرزت أمامها صورة لأبويها وهما يبدوان في حالة من النشوة والفرح الغامر وزهو الحياة يحيط بهم وهما ضاجين بالنشاط وبحيوية الشباب في الأيام الأولى لخطوبتهما والحياء الشرقي الساحر باد بوضوح على محيا أمها وهي تجلس على مصطبة خشبية من مصاطب شارع أبو نواس بين مجموعة من صنوبرياته وصفصافاته المورقة التي يلوح من بين اهتزاز أغصانها على ما يبدو لوحة بيضاء مكتوبا عليها بالبنط العريض وباللون الأزرق(الذي تنشرح له النفس) بار القارب فوق خلفية تتراءى من وراءها صورة لقارب بأشرعة بيضاء يضج حوضه بحمولة تحتوي على ألوان من أصناف الخمور المثلجة وباص يقف على طرف الزاوية عائد لشركة العگيلي للسياحة والسفر كان واحدا من سلسلة بارات شارع أبو نواس الشهيرة أيام زمان..

كتف أمها يلتصق بكامل رقته بكتف أبيها وخاتم الخطوبة يلمع في أصبع يدها اليمنى ووالدها يلف ذراعه حول خصر أمها وكف يده الشمال

تضغط على أعلى زندها كانا في نشوة وسعادة غامرة وعيونهم تشع بأحلام الغد العريضة أحلام شابين ما زالا في مقتبل العمر...

اتفقا على أن يخطوا سويا نحو غايتهما خطوة بخطوة وراء خيط مستقبلهما وحلمهما المنشود..

هنا صور حفل زفافهم وهما يقومان بقطع كيكة العرس بين حشد من المهنئين وفي صورة أخرى يتبادلان قطع من الحلوى في وقت واحد هي تمد القطعة المعلقة بطرف أسنان الشوكة وتدنيها من فمه وهو يقدم لها من ذات الكيكة قطعة صغيرة ..

والدتها تبدو متألقة بثوب العرس الأبيض الطويل الذي ينفرش بوسع من تحت الخصر إلى حد القدمين وينتهي بذيل طويل باد من خلال طرف الصورة وهو يسحل وراءها ككوم من الثلج الهش أزاحته مياه الإمطار المتهادية وهي تظهر عارية الذراعين ونصفي ثدييها من الأعلى يربوان ببياض لحمهما الذي يبدو أنه رغم قدم السنين لم يزل يضج بالفتنة والأغراء من فوق فتحة الصدر المستديرة التي تنفتح كهلال مزدان بالصفاء على رقبة بالغة الجمال ووالدها ببذلته السوداء وقميصه الأبيض يقف بجانب والدتها بقامته المديدة التي تميل بحنو ومحبة على كيان أمها وقامتها الأقصر من قامته بقليل وهو يطوق رقبته بربطة عنق سوداء عادية تتناثر عليها بتباعد حبيبات بيضاء كنجمات ضالة في سماء مدلهمة وشعره اللامع الممشط بعناية يرتفع فوق أعلى جبهته وتتجمع أطرافه الأكثر طولا على جانب خده الشمال وعينيه المشعتان يمتزج فيهما وهج الحب وطيف الحياء الرجولي الآسر وتوهج الأمل والإيمان بالغد والمستقبل...



في صورة أخرى من بين مجموعة صور ما بعد الزواج تظهر أمها ببطن منتفخة وهي حامل بشقيقها البكر أمجد الذي كان يكبرها بعامين تقريبا..

كان عليها ثوب الحمل المورد بأوراد زرق تنفرش بقرب بعضها البعض وكان ينتفخ تورم الثوب من عند البطن ويأخذ بالأتساع والانفراج من عند الفخذين لنهاية الركبتين وفي قدميها تنتعل خفا من الخشب بلا كعب من أجل أراحة المفاصل وعدم تشنج فقرات الظهر كما جرت عادة الحوامل طبقا لنصائح الأطباء

كانت واقفة بين أحدى الممرات الحجرية في أحدى الحدائق العامة بين خضرة أوراق الأشجار اللامعة وجمع من شتلات الأوراد البيضاء والحمراء والصفراء التي كانت تستظل بأشجار الآس الداكنة المشذبة بيد جنائنية ماهرة وابتسامتها العذبة المعتادة تدل على أن من كان يلتقط لها الصورة هو والدها ..

هكذا البنت تستطيع أن تتعرف بسجيتها وعفويتها الغريزية على معنى الوهج الذي كان يطوف لمعانه في عيني أمها ويترك نثارا من بقايا مسحته المخملية على ملامحها الشهية وخيط الالق الذي كان يرسل ضوءه العطوف من استدارة وجه أمها الرائع الجميل..

يا لمشاعرهما التي لم يخفت توقدها في ظل نمطية الحياة وروتينية تفصيلاتها اليومية الكثيرة..



ـ آه.. على تلك الأيام أي حياة كنا نحيا وأي محبة كانت تسود بيننا..حين كان ينتابهما الشعور بالملل ويسأما من رتابة الواقع بسبب الروتين وميكانيكية العمل كانا يختما الفيزا من سفارة بلد من البلدان المتوسطية التي تسمح للعراقيين بدخولها على وجه السرعة ودون تعقيدات أو إجراءات مطولة في الدخول لأراضيها خصوصا البلدان التي يكون لديها سواحل على البحر الأبيض المتوسط التي تمتاز مياهه بالزرقة الداكنة التي تتناثر على صفحات أمواجها الزوارق الشراعية التي يهدهدها الموج الواهن بهدوء وخفة وعلى مبعدة منها تسرح فوق المياه العميقة اليخوت التي يملكها أولاد الذوات والأثرياء والميسورين تظهر لهم مثل هيئات عجول بيضاء نقية تناطح الموج المندفع وتصد الهواء الذي يزير أشرعتها ويدفعها بصورة رعناء صوب صفرة رمل الضفاف الذهبية الدافئة وزوارق الصيد التي تمكث بعيدا في أماكنها وتنشر شباك صيدها في أعماق البحر مثل تماسيح غادرة تخمد طويلا وبسبات كهفوي لتغرر بالكائنات القريبة منها ثم تفتح فخاخ أشداقها وتهجم بخبل وغلواء حيوانية حين تظن أنها قاب قوسين أو أدنى من نيل بغيتها بالتهام فريسة ساهية تبتلعها وتتلقط رزقها من جديد وهي لا شغل لها ولا شاغل سوى مزاولة لعبتها المعروفة بالتظاهر بالنوم تحت سطح الماء ثم المباغتة والانقضاض السريع على من تراه من الحيوانات في متناول شباكها..



الموج بهدوء وخفة على مقربة من الشواطئ التي عزما على النوم على رمالها

كانا يحزما حقائبهما دون تردد ويمضيا بعيدا عن أرض الوطن كانا في كل عام يمضيان برحلة أو رحلتين أو ثلاثة للخارج خصوصا حين يعزمان على زيارة شواطئ لبنان أو ساحل اللاذقية الجميلة أو سواحل طنجة المدينة البيضاء التي تشرح القلب صورتها الصباحية التي تتغطى بزرقة السماء الصافية وبياض المدينة الجبلية وسيدي بن سعيد في تونس الرائعة في فصل الصيف العراقي الحارق يهربا من لهيب طقسنا الفظيع القاتل إلى شواطئ نيس أو سواحل أثينا ويعودا من تلك السفريات محملين بالهدايا والمزاج الرائق مقبلين بأرواح متجددة وبنشاط وقوة على الحياة والعمل بطاقة خلاقة وبروح متجددة تمدهم بها تلك الاسترخاءات في الأجواء الأقل سخونة والأكثر حرية التي يمكن للواحد أن يمارس عليها ما لا يقدر أن يمارسه في أرض تخاصمت ذرات ترابها وبطاحها الكالحة مع الحريات وتعاقدت بزواج كاثوليكي مع القمع والاستبداد والعنف الحياتي وحفلت بالعيون الفضولية الكونترولية المنفتحة على وسعها في كل زاوية واتجاه عيون تدربت على التلصص والريبة على كل من يريد أن يمارس شيئا من حريته المفتقدة حياة كانت تنعدم فيها الراحة

فكان يهرب من يستطيع أن يهرب لخلوة آمنة من تلك الخلوات البعيدة عن البداوة ورصد العيون الجائعة ليستعيد فيها ذاته ويحقق فيها جزءا من حريته وينال قسطا رخيا من راحته..

ومن ثم يعود للدخول في حلبات هذه الحياة وصراعتها بدم بارد وبال هادئ

حين كنا صغيرين كان أبواي يتركاننا خلال تلك السفريات التي يقومان بها مع خالتي مياسة( التي كانت تسكن في حي الغدير الحي الملاصق لمدينة بغداد الجديدة ) التي لم تصبها نعمة الإنجاب فعاشت وحيدة مع زوجها المعلم طيب القلب الوديع بقية حياتها, فكان بقاءنا بصحبتها يمثل فرصة لا تتاح لها كثيرا لتمارس علينا أنا وأمجد دور المسؤولية وتعيش وتمارس من خلالنا شعور الأمومة المفتقدة أذكر في مرة من المرات اصطحبتنا معها أنا وأمجد ومضت بنا بجولة بين أسواق بغداد الجديدة مررنا بسوق الطيور وسوق الخضار ودلفنا لأسواق الأقمشة واشترت لنا علب البيبسي كولا وسندويجات من مأكولات السريع الشهيرة قرب مسطر العمال ثم لففنا في سوق الأقمشة خلف جامع السامرائي والسوق المسقوف لبيع الملابس الجاهزة من كل الماركات اختارت لي ثوبا ورديا قصير الأكمام وأخذت لأمجد قميصا كركميا هندي الصنع والمنشأ ثم عرجت على فالح أبو العنبة أشهر بائع فلافل في العراق حسب ظني وليس في بغداد الجديدة فحسب جلبت منه صحن فلافل مسلفن وعدد من أقراص الصمون مع كيس سلطة وكيس نايلون معبأ بالعنبة المخللة بالطرشي المچبوس على الطريقة النجفية التي تحفل بذرات مطحوناتها الحارة لنتناولها في الاستراحة المقتطعة في منتصف الفلم قطعت لنا تذاكر للدخول إلى سينما البيضاء التي كانت تعرض فلما من أفلام عبد الحليم حافظ الرومانسية أبي فوق الشجرة الذي أحدث ضجة كبيرة بين الفتيان والفتيات في بغداد في ذلك الوقت على ما أذكر عبد الحليم الذي كنت أحبه بجنون كما كنا نحب جميعا نحن البغداديين صوت فيروز الملائكي وهو ينشر حولنا في كل صباح برنينه الحلو حدائق خضراء مليئة بأشجار الورود ويفتح أمامنا الأنهر والغدران والينابيع الصافية كأنه يأخذنا للجنة

كان ذلك كله في بدايات السبعينات على وجه التحديد أن لم أخطئ وقبل احتراق تلك الدار بفترة وجيزة ذلك الحريق الذي ذهب ضحيته فتيان وفتيات بهيو الطلعة تفحموا بعد أن نشبت النار بخشب الجدران بسبب تماس كهربائي كما تناقل بعد الحادث أحرق أقمشة الستائر والتهم السقف المغلف بالفايبر القابل للاشتعال السريع والذوبان ككتل الفلين ونزلت على بهو الصالة لتلتهمه ألسنتها اللاهبة ثم جرت النيران جريان مياه السيل على المقاعد وأغرقتها بألوان من الدخان وشعواط الشعر المحترق الخانق الرائحة وتفحم لحم أجساد الجمهور الذي كان متعطشا بشدة في تلك الفترة الخضراء لكل ما كانت تعرضه السينمات من أفلام تتعلق بالمشاعر وبقصص الحب والرومانسيات وكل ما له صلة بالعاطفة والرومانسية التي لم يألفها العراقيون في الحياة العادية بسبب النظم والعادات والأعراف الاجتماعية والعشائرية التي تربى عليها المجتمع العراقي التي تحرم بشكل قاطع هذه المفسدات التي لا يمكن أن يقبلونها بأي شكل من الأشكال كانت تأتي عبر الشاشة البيضاء طرية ساحرة أخاذة

لم يكن أمام الفتيان الصغار من سبيل سوى تعلمها عبر تلك الأفلام الرومانسية يتعلم منها الشبان اليافعين وقليلي الخبرة القادمين من الريف أساليب الغزل وأسرار الحب وكيفيات التقبيل وما شابه من فنون وابتكارات المشاعر وقصص الغرام والرومانسيات التي لا تنتشر إلا في المدن..

لكم كانت تلك الأيام جميلة وهادئة والحياة كانت تنساب فيها كما تنساب المياه العذبة في الغدران والجداول الحجرية الصافية..

أنا وأمجد كنا ننمو وننضج يوما بعد آخر ووالدينا بدورهما كانا يتقدمان في السن سنة بعد أخرى يشيخان دون أن ندري وتجاعيد الكبر تخط خرائطها على وجهيهما وعلى لحم يديهم وعلى أطراف أصابعهم ورقبة أبي تبدت لي في وقت من الأوقات وعلى حين فجأة قد اختلفت عما كانت عليه من قبل فرأيت عليها بثورا عديدة قد نمت وتجاعيد برزت وخطوط الأوردة وضحت للعيان لم أكن قد لحظت شيئا منها عليه من قبل,

وكانت أمي قبل ذلك قد بدأت تنتهج معي نهجا مختلفا أشعرني بنموي وصيرورتي فصارت تحشمني بجلب بعض الأشياء السهلة والمشاركة في طهي الأطعمة وصنع القهوة والشاي وتسخين الخبز وغسل الصحون وكي الملابس ومساعدتها بتقديم أطباق المائدة

ـ أجلبي لي يا وصولة قدح ماء بارد..هكذا بدأت في أول الأمر معي وكنت اغتبط وأنا أطير فرحا حين أجلب قدح الماء سالما عكس المرات السابقة التي كان ينزلق فيها القدح من بين يدي ويتحطم على كاشي الأرضية أو أسقطه على أحجار مرآب السيارة الصلبة وينفجر زجاجه متحطما ومتناثرا في مختلف الاتجاهات والأنحاء وأبقى أثر حدوث كل حادثة من تلك الحوادث أسيرة رعب المفاجأة ووقعها وأبقى للحظات نهبا للدهشة والذهول وكنت أحمر خجلا ويتجمد دمي في عروقي المتشنجة وأنا أطالع وجوههم وأنتظر ردود أفعالهم

وكنتم تضحكون مني وتقولون فدوة طار الشر وكنت أتقبل الأمر على مضض بعد تلك المواساة وأمضي لأجلس بجانب أمي التي كانت تلين الأمر وتخفف عني بكلماتها التي لم تبارح ذاكرتي ما حييت

ـ أنسي الأمر يا وردتي لا عليك يا شمعتي ..تقول:

حين كنت بعمرك كانت تسقط من يدي الأطباق والگلاصات وأستكانات الشاي والأواني الزجاجية التي كانت تتحطم على بلاط الأرضية وأذكر في كل مرة كانت تأتي أمي على عجل لتلملم وتجمع حطام زجاجها بسرعة بعد أن ترفعني من بين حطام الزجاج المتناثر من حولي وتكنسه وتزيل مشهد الحطام فأستعيد هدوئي وطبيعتي بعد ذلك...

على ذلك النحو علمتني دورة الحياة بأن كل ما كان يحدث لي كان قد حدث لك من قبل وسيحدث لأحفادي فيما بعد

و كنت تطلبي مني المزيد ولا تكفي أبدا..

ـ قشري لي برتقالة..

ثم تقولين اجعليهم اثنتان..

ـ قشري واحدة أخرى لوالدك أيضا وكنت أفر من الأرض كما تفر طيور القطا وأطير فرحا لأنك بدأت الاعتماد علي في تأدية بعض المهام المنزلية البسيطة كأن أجلب لك صحن الجبن وأضعه على مائدة الإفطار أو أقدم سلة الخبز أو أناء الزيتون المخلل ويوما بعد آخر كانت تزداد مهامي ومسؤولياتي على العكس من أمجد الذي كان كسولا بشكل شبه تام والذي كان يعتمد علي كثيرا في تقضية بعض الأشياء منها ثيابك التي كنت أقوم بكيها ووضعها في خزانة ملابسك التي كنا نتناصفها أنا وأنت أيام كنا صغيرين ننام سويا في غرفة واحدة تجاور غرفة نوم أبوينا اللذين رسخا الحب فيما بيننا من خلال توجيهاتهم ولغتهم البلابلية التي كانا يخاطباننا ويتخاطبان فيما بينهم بها على الأقل أمامنا وما كان يتخللها من ألفة ومحبة حيال بعضهما البعض, وانعكاس ذلك على سلوك أبنيهما وتربيتهم لكم كانا حبيين ووديعين كانا بكل لطف يحلان ما يحدث بينهما من مشاكل وعقد تستوجب الحل كانا سويا يزيحان كل ما من شأنه أن يعوق مجرى حياتهما في هذا العالم الشائك..

أكبر ما كان يحدث بينهما وأتذكر بعض من تلك التناتيف, أكثر ما كان يحصل هو أن تعلوا اللهجة ويحتد الأسلوب وقبل أن تسوء الأمور يتراجع أحدهما ثم يسود الصمت ثم يبدأ العتاب الحبي الودود بين ولهين أسطوريين , مرة واحدة رأيت أبي يلقي باللائمة على والدتي فنظرت له أمي بألم فيه الكثير من العتب الودود ولم تمض سوى لحظات حتى هدءا وأندفع كل منهم صوب الآخر وتعانقا بلهفة وبشوق جارف لدفء محبه ودون كلمات ظلا يربتان باللمس على ذراعي بعضهما البعض بكل رفق وبتربيت لطيف على كتف الآخر وأنتهي الأمر بعناق طويل فاض بالحب ورشح بالعاطفة بهذا الشكل كانت تختتم تلك الخلافات على ندرتها..

لم يصدف أن رأيناهما أنا أو أمجد بحال غير لائق أو بوضع خارج حدود المعقول, أعتقد أن سبب ذلك يعود لشخصيتيهما اللتان تتمتعان برصيد جيد من التعليم وقدر وافر من الثقافة زائدا ما كانت تضيفه أليهما السفريات السنوية من متعة وما تزودهم به من خبرة مخالطة الشعوب الأخرى كان وقعها على السلوك كوقع الموسيقى في تهذيب الروح الهائمة في الوحشية والدناءة فالسفر يفيد من نواح عدة منها التعرف على عادات المجتمعات وأطعمتها وسلوكياتها وطريقة احتفاءها وطرق التعاطي فيما بينها هذا ما كانت تذكره أمي هو والكثير من تلك الأشياء التي رفدتهم بنعمة العقل وحلم الصبر والتروي في إدارة الأمور أثناء الأزمات التي كانت تعترض سير العمل وأبقت على ما كان يربط فيما بينهم من وشائج حب ومودة لذلك حافظا على توازن علاقتهما حتى سقط أبي من عربة هذه الدنيا وترك مهمة تكملة بقية المشوار لوالدتي..

قد فات الكثير من الزمن على ذلك التاريخ إلا أني مازلت أذكر نوع اللغة التي كانا يتبادلانها ويتفاهمان بها, كانت من اللغات التي يندر أن تجد لها مثيلا بين أبوين في أيامنا هذه..



أذكر وأنا في السادسة من عمري كنت لم أزل بعد طفلة صغيرة أسير برفقة أبوي ومعصم يدي الرقيق تشده أمي بيدها اليمنى ويدها الأخرى بيد أبي ونحن نسير سويا ذاهبون لحضور حفلة عرس من الأعراس العائلية أو نلبي دعوة من الدعوات لأحد الأقرباء كنت أرى نظرات الحسد التي كان الأزواج الآخرون التعساء بالطبع في حياتهم الأسرية يرمقونهم بها كانت أمي وأبي يعيان ما يكمن خلف تلك التطليعات الحاسدة في غالبيتها حتى المستثارة منها بدافع الفضول والاستغراب من أواصر هذه العلاقة فكان ذلك الإحساس يعاظم لديهم قيمة ما هم عليه لذلك حافظا طيلة عمر زواجهما على جوهر علاقتهما الفريد وظلا على تلك الحال حتى أرخى والدها اللجام من بين يديه وترك خيول هذه الحياة تخب في أرض الله الواسعة وتهيم على هواها, تنازل مثل كل العشاق المخلصين ونام كما ينام نومته الختامية المسهدين تحت ثقل أحلامهم رأسه مطروح على الوسادة وشفتيه المحتقنتين اللتين ضربتهما صفرة الألم وزمت المفاجأة تبدو آثارها عليهما كما أن شيء من الإصرار المتعسر يقبض على الوجنتين ووجهه الجميل تعتريه تقلصات الألم ويسيطر عليه الانقباض والعينين تصوبان نظرتهما المستنكرة نحو السقف وأحدى يديه تتقوس أمام وجهه وأصابع كفه تنفرج متصلبة وراء رأسه مثل حزمة ريش تشمخ أطرافها بتباعد فوق خوذة فارس من فرسان الحرب البسلاء ذاد عن المبادئ التي آمن بها بكل أخلاص وعزيمة حتى النهاية حتى باغتته طعنة البين فخر صريعا وهو يقبض على سيفه, ويده الأخرى تمتد مع امتداد جسده وتنبسط راحة الكف على نهاية الفخذ وأصابع الكف يعتريها ذات التصلب وهي تقبض على الفراغ والألم ..

استسلم دون أي عناد أو مقاومة لإغفاءته الأخيرة غط في سبات الأبد الذي لا رجاء ينتظر من وراءه..

تخلى عن الحياة كما تتخلى الخيول الأصيلة عن تكملة السباقات الطويلة بعد أن تبلغ من العمر شأوا , نام بنبل نومته الحريرية وتراخت أعضاءه بهدوء وسكون نهائي دون أن يحدث أية جلبة أو ضجيج,على ذلك النحو مضى مغادرا

إلى مثواه الأخير إلى حيث السلام التام والزهد الخالص والخلود في العدم والطمأنينة التي ما بعدها طمأنينة لم نجد بعده وصية مكتوبة, مجرد توصيات شفهية كان يتحدث بها مع الوالدة على انفراد بعد أن بدأت صحته تسوء ويختنق أثناء النوم ..

ـ لو جرى ألي أي عارض تصرفي بنقود المصنع ودعي البناية والمحلات مؤجرة أن حصل لي مكروه اعتمدي على ولسن الأخ والصديق المسيحي المخلص ببيع المصنع والأقمشة الغير مصنعة أوليه الثقة التامة لأنه أهلا لها تولي أنت أمر شؤون العائلة وتركنا نحن أفراد عائلته ولديه وزوجته الحبيبة التي بقيت تلوب بين فكي زمانها تناجي صوره ولا تريد أن تدرك أن غيابه كان بلا رجعة

في ليلتها كانت تنام إلى جانبه على السرير وهي تشكو يومها من حمى صفراء لا أدري أن كان جسدها قد تنبأ بما سيحدث لهذا الكائن الذي كثيرا ما تلاحم وإياه بالفرح والبهجة على امتداد سنوات طويلة في مدن وبلاد عديدة..

توقف قلبه عن النبض وكف جسده تماما عن الحركة سقط في بقعة السكون العميق مثل نقطة ضوء تلاشت في غياهب الظلام المتناهي .. سقط كما يسقط العشاق الأسطوريين في ساحة الحب وتركنا نهبا لبراثن اليأس والندم والدهشة وأنياب الألم التي انغرست في أضلاعنا وتركتنا نعوي هلعين تحت صرير رحى الفجيعة التي لا تدع للمكلوم سبيلا ليبرأ من أوجاعه ويتخلص من المصائب والآلام التي فتحت مع الجراح أشداق الشهقات على وسعها نائبات حلت وتتالت فوق رؤوسنا عذابات ومتاهات وحيرة لم نتمكن جميعنا من حصر آثارها والسيطرة عليها رغم أننا حاولنا التسليم بها وفهمها حين ذاك كما أني أؤكد أني لم أكن أعي تماما ما كان يحصل وما حصل حتى هذه اللحظة لم أستوعبه بتاتا سوى بالاستسلام له كمن يستسلم لقدر غير محسوب قدر مفاجئ ..

وهنا كم يصح لي مثل البناية التي تتكون من أربعة طوابق سقط طابقها الأرضي المفخخ بالدنميت فتداعى الثاني من فوره ثم تلاه بشكل آلي الثالث ثم الرابع ..وأنا..؟

أعني متى ترغب يا أبي بأن تمكثني بجانبك..؟ أما أنا يا أبي حقا أني لا أعرف من أنا وما معناي ما هي كينونتي وأين هو طريقي الذي رسمته حين بدأت تثب في رأسي الأحلام المجنونة ,أين هي أحلامي تلك التي تساقطت على جانبي مسيرة هذه الحظة التي نسميها حياة,

درب العمر المليء بالفخاخ والمفاجئات المؤلمة وأضحيت مثل شبح تخلى عنه ملاكه الضبابي الخادع فأضحى هزيلا كهزوة للعابرين والمارة يفضحه ضياء الشمس الساطع في عري ظهيرة صاهدة, أضحيت مجرد بنت تعدت الأربعين من عمرها وقبل أن يرزقها الله بالخلف وتنجب لها بنتا أو ولدا يملي عليها وحدتها ويخفف عنها كربتها ضاع أثر زوجها وتلاشى تماما من بين هذا الوجود الأعمى اختفى رجلها في بلد تفشى فيه العنف وانتشرت في مدنه جثث الضحايا بعد الفلتان الذي ضرب جنبات البلاد من شرقها إلى غربها وظلت هي وحيدة ضائعة في عالم لا أدري أن كان يتآكل أم يأكل بعضه بعضا بشراسة ووحشية والمرأة دائما ما تهرب بحواسها من مشهد الدم ومناظر القتل والتصفيات الجسدية فكيف لها وهي عرضة لابتزاز هذا وذاك من الطائفيين والقتلة الذين قلبوا الحياة واقتحموا الجامعات وجلسوا فيها وبدءوا بحرق المواد العلمية التي يرون في تدريسها تحديا للذات الألهية أو نيلا منها هكذا عقليات بسطت سلطتها على أرض الواقع وجعلت من الخروج إلى الشارع أمرا يتطلب أخذ الأذن من ملتحي فاجر أو رجل دين أفاق أبن زنى لا يختلف عن أي مسربت لا يقيم إلا في الشوارع والگراجات التي لا تنتج سوى العفطية والسرسرية أما أن تكتم غيضك أو أنك تتحمل نتائج ما تنطوي عليه مغامرتك في الخروج من بيتك بلا أذن من تبعات ومخاطر كبيرة قد تترتب على ذلك الفعل الغير مسموح برتكابه..

من يتخيل أن المكوث في البيت أصبح مغامرة غير محسوبة العواقب لذلك تسربت الآلاف من العائلات والأهالي قل مئات الآلاف من العراقيين بل ملايين تركوا بيوتهم ولاذوا بظلال جحيم البلدان المجاورة,حتى منهم من حمل الشيء القليل من عفشه وجلس على مشارف المدن العراقية في خيم بالية متهرئة يلوك واحدهم الألم والهواء في ليل كربته ويواجه نظرات الأشفاق التي تطعنه بها عيون الكاميرات التلفازية الفاضحة التي تريد أن تعري العراقي حتى من خيمته البالية وتظهره أمام الملأ عاريا ذليلا بلا حول ولا قوة لتقتاده فيما بعد مثل نعجة من مربط إلى آخر.. على هذا النحو تجري انتقالات أهل حواضر الشرق المحاطين بالصحراء نهجر حواضرنا ونعود إلى العراء وكأن القدر يأبى أن يفصم هذه الوشيجة اللعينة التي تربطنا بذلك الجذر البدوي المتخلف المقيت ..

في بداية ذلك السعار الديني رفعت بعض المجاميع لافتات على ظهور السيارات تحذر النساء بشكل عام والفتيات أثناء الخروج بشكل خاص والتحذير بين بشكل واضح لا يقبل اللبس من أن أمامهن سبيلين لا ثالث لهما:

أما الحجاب أو التيزاب والكثير من الفتيات اللاتي لم يمتثلن لتلك التحذيرات والتهديدات التي لا تقبل المهادنة لن يتورع هؤلاء عن رشهن بالمياه الحارقة عدا عن النساء اللواتي قاموا بتثقيب صدورهن وبقر بطونهن بالمثاقب الكهربائية وبمسامير الكمبريسرات المدببة والتلذذ بالتمثيل بالجثث المغدور بها أو تكديسها فوق بعضها حتى يبدوا مشهدها وشكلها أمامهم ككتل صغير من اللحم ثم يقومون بعد ذلك برشها بالبنزين وإشعالها بالنار وبعد لحظات من نشوب النار واستعارها تحترق الوجوه وتبدأ الملامح بالتلاشي شيئا بعد شيء حتى تغيب تماما بعد أن يلتصق اللحم الآدمي متشبثا بعضه ببعض وكأنه يحقق التلاحم الإنساني التام الذي عجز الأحياء عن تحقيق شيئا يسيرا منه على أرض الواقع الرؤوس المقطوعة الراحات التي تعتصر كمشات من التراب العيون الناطة فوق المحاجر صفوف الجثث الملقمة بالرصاص الوجوه السارحة في حدائق العبث الحياتي اليومي الذي لا يكف عن ولعه بهذه الفنتازيا المدمرة التي تتجلى فيها صور الموت ولوحات القتل الدامية والحراب والرماح والسيوف والعبوات والتفخيخ والصكاكين وفرق الخطف والموت والروائح والنفايات وأكوام البلاء وكوميديا البلاهة الجنون العام الذي يلف عقول العراقيين جميعا سيناريوهات يعجز العقل البشري السليم عن صنعها بل سيعجز حتى عباقرة الفوتوشوب من إيجاد صور ومشاهد تشبه مزارع الفناء المخزي



من صور مخزية مع بعضها البعض مثل مزرعة للجثث التي أعادت لتذكرني بمشاهدها صنوف الوحشية والقتل الجماعي أيام هولاكو المرعب وهتلر المتوحش جثث المغدور بهم مرمية على أرصفة الشوارع والرؤوس المطعمة بالرصاص تعتاش عليها الكلاب المتوحشة وترتع فوقها سحب الذباب الذي تشده جيف الجثث ورائحة الدماء المسفوكة كل رأس له حصته من الرصاص كل رأس يتم حشوه برصاصة واحدة رصاصة لا أكثر تبين لك حجم الحرص على التقتير بالذخيرة وتكشف لك أيضا مدى الرخص الذي وصلته حياة البشر التي أحل قتلها بعض من رجال الدين الدمويين محللي القتل وفقهاء الدجل وأساطي سرقة المال العام والخطف والاغتصاب ومحرمي الرقص والغناء بأنواعه ومانعي الموسيقى والفنون الجميلة الذين أطاحوا بالنصب الفنية وهشموا التماثيل التي يعدونها أصناما التي كانت تنوب بدلا عن دور الله فيتوجب تهديمها حرقوا صالات الفنون ودور العرض السينمائية وجردوا الحدائق من أشجارها حتى لا يتمكن المحبين من التخفي تحت أغصانها هؤلاء المهرة في التدمير وسريعي التنفيذ في مأموريات تصفية الخصوم لديهم باع طويل في حرفية التصويب ولديهم كذلك مهنية عالية واحترافية منقطعة النظير في القتل وكأن الحالة تريد أن تقول بأن بقاء ذلك الرجل في السلطة كان أشبه بوجود غطاء حديدي ثقيل على فوهة بالوعة خراء أو مرحاض طافح بالإسهال والقيء فما أن تم رفعه حتى هبت علينا نتانة العالم وجيف الأرض كلها ..

بعد أن تبين أن لدينا هذا الكم الهائل من المعممين الأميين العاطلين عن العمل الذين أسبغت عليهم عامتنا ألقاب رفيعة حصنتهم من أي أذى..

أي معمم من المعممين الذين يرتعون كالذباب في المساجد والحسينيات كل واحد من هؤلاء لديه في هذا الزمن السفيه للأسف شهادة وصك غفران بلقب عالم دين وهب له من سوق الغالبية مع أنه يجيد القراءة ولا يحسن الكتابة ولا يحترف شيئا سوى الاعتماد على ما تجود به حنجرته من هراء وقيح يمكنانه من الزعيق والتحريض بلهجة نارية يسوق من خلالها بضاعته الكاسدة على السذج والغافلين من الناس,على العكس من رجل الدين في الغرب فأنه أذا ما رفع صوته وأتبع ذات الديدن الحنجوري فأنه سيفقد مصداقيته ويخسر سبوبة معيشته ..

الأمريكان باجتياحهم لهذه البلاد رفعوا جبل الوحل الجاثم فوق جثتها المتعفنة ووضعوا بدلا منه جبالا ومستنقعات من النفايات التي سرعان ما تحولت إلى بحيرات عميقة تتقافز منها آلاف الجرذان والقوارض والوحل والضفادع تفيض بذات الروائح التي كان يفيض بها ذلك الجبل



يا أبي أبنتك الوحيدة تعاني من مرارات وعذابات لا حصر لها ولا عد,تركتني للوجع يا أبي وللكفاح من أجل الاستمرار في العيش في وسط هذه الأهوال..

مضيت ومضى بعدك أخي وتلته أمي وأبقيت ميراثك وتركتك التي ورثتها عن جدي تركتموها أنتم الثلاثة لي كل ما تملكون,عمارة تتكون من طابقين كل طابق يحتوي على شقتين وتحتهما على جانبي الممر الذي يؤدي إلى أدراج البناية,أربعة محال تجارية وأربعة شقق مؤجرة جميعا بإيراد يكفي لتغطية نفقات أي عائلة من عائلات بغداد ويقدر أن يجعلها تعيش برغد واكتفاء تام..

لكن ما نفع المال وأنت وحيدا تتخبط كأعمى بين حاضرك المؤسف ومرارة ماضيك اللعين وذكرياتك التي تتذكر حلوها ومرها بألم وغصة,وأنا صرت مثل جدتي لأمي بعد أن بلغت الثمانين من العمر أتذكر أنها صارت ترى غدها بعينين عتيقتين لا تكادان التفريق بين صفرة الألوان وخضرتها..



قطع عليها حبل أفكارها واستغراقها في صور ماضيها الحالم صوت طائرة الأپاتشي وهي تمرق من فوق منزلها, كانت تطير بعلو واطئ عبرت بسرعة كبيرة وبصوت مجلجل بالقرب من سطح بيتها ومضت صوب جهة الغرب تجر وراؤها زمجرة وجلبة كبيرتين انطلقت وراؤها عيارات نارية من أسلحة خفيفة لكنها مضت في سبيلها دون أن تصب بأي شيء



خطت صوب صالة الجلوس بعد أن تصاعد لهب ناري تلاه صوت انفجار قريب ويديها المرتعشتين مازالتا تمسكان بعلبة الصور كانت تنوي أن ترى تقريرا أو خبرا عاجلا في التلفاز يبين مكان الانفجار وما خلفه من ضحايا و أضرار بعد أن شهقت السنة اللهب وبلغ رمادها عنان السماء وسودت ظلام الليل أكثر فأكثر بما أحدثته من غبار محترق ..

شغلت التلفاز



وداست بأصبعها الكبير على زر الريموت فراعتها مشاهد الدماء التي كانت تهرق وتصطبغ بها ثياب العشرات ممن كانوا يسبحون بدمائهم ويرددون بصوت عال وبحماسة كبيرة حسين ,حسين ويواصلون الضرب على رؤوسهم بألسنة السواطير والبلطات الحادة وحشود أخرى تجلد ظهورها وتدقها دقا بالسلاسل الحديدية التي تبدو من خلال ما تبينه الصورة من دماء مهروقة ولحم وجلد منهرس هرسا دون أي واعز وأختلط مع أنسجة ثيابهم الرقيقة ونزلت بثقلها على اللحم الحي فنزعت الجلد وأكلت زردات السلاسل الصلدة بحركتها التناوبية طبقة الشحم الرقيقة وصبغت مكاني أثارهما بلون الدم,

سارعت للتخلص من المشهد وهي تهرب مسرعة لقناة أخرى بحثا عن شيء يسري عن النفس فطالعها ثلاثة رجال ملثمين أحدهم يقرأ بخطاب فيه تفاصيل أسباب تنفيذ القصاص العادل بعدو الله والشعب والأمة والآخر بيده سيفا مسلولا وهو يقف بجانبه بهيئة المستعد العازم على قطع رقبة الرجل المكبل والثالث في يده بندقية ويدبك دبكة فلكلورية يعبر فيها عن بهجة كبيرة وفرح جنوني لا يصدق كأنه في حفلة عرس لا تضاهى لسلطان عثماني



والضحية مكبلة بالحبال وتبدو مسلوبة الإرادة وهي تسجد كأنها في لحظة خشوع متناهي وتهم بتأدية الصلاة على مذبح التكفير وتمد رقبتها باستسلام تام للذبح بصورة تغلب عليها الدهشة والذهول



ـ ما هذا الجنون ما هذه النفايات.. قالت بمرارة واحتقار واشمئزاز ورذاذ بصاقها يتناثر على شاشة التلفاز وأتت بقناة أخرى فطالعها مطرب عراقي واحد من فصيلة المطربين الدموعيين يغني بلهجة بكائية جارحة تطرح الفيل أرضا لو قدر للحيوان وفهم كلماتها المترعة بالحزن والطافحة بعلقم الشجن الذباح

المطرب ينوح على وقع قرقعة موسيقية ناشزة يعزفها عازفان غشيمان ومن حولهما لفيف من العراقيين بمختلف الأعمار والأشكال يعربدون حول المطرب الموجوع ويرقصون من حوله بهستيرية وبصخب وجلبة كبيرتين مع أن صوته النائح يهد الصخر ويشقق الأحجار الصلدة بأحزانه الجارحة..

تبسمت تبسم المتهكم الجازع بألم من مرأى هذه المشاهد وصور هذه الفنتازيات العراقية العجيبة وهزت يدها عجبا واستغرابا لما حصل ويحصل لأناس هذه البلاد التي كانت تملك الشيء الكثير من الريادة والإشراق للبشرية وبما قدمته للعالم من فنون وموسيقى وشعر ورسم وملاحم وفن عمارة وكتابة كل ذلك الماضي الذي ظل يسموا كسور عال يصد رياح الصحراء ورمالها بمتانة بهائه وببريق ألوانه التي محل شكلها تحت وطأة رياح السنين العاتيات وبهت جماله وتهاوى تحت حوافر الأقدار اللعينة على أيدي أناس لعبت الأوقات والأزمنة السخيفة والمصادفات التاريخية البائخة أدوارا في تسلطهم على مقدرات هذه البلاد التي أشبعوها ذلا ومهانة وضلوا يسحقونها بأحذيتهم ويجرونها من حدف إلى حدف على مر أزمنتها لم يكفوا عنها حتى أغرقوها في بحر من الآلام والمآسي وبقيت حالها تشبه حال مزرعة حيوانات أو حقل من حقول الدواجن التي يمكن أن تجر منه كميات كبيرة للذبح والسلخ دون أية رحمة ودون أن تكعها روائح الدم الفاسد







*********************************************************************







قلت القراءة رغبة القراءة لدي منذ فترة لأن تفاقم الوضع قد فاقت صوره ما يحدث في أشد الروايات غرابة فتوقفت تماما بعد رحيل الأهل لكني بقيت تائهة بدونها فعدت حتى أقدر أن أواجه محنتي وأحافظ على توازني وأستوعب ما يدور من حولي لأن القراءة هي الطاقة المضاعفة الوحيدة التي تجعلك تلتف على ما حولك من عبث غير مفهوم فزودتني بالمقدرة الحية التي مكنتني من الصمود في هذا الوضع العاصف بالفعل كانت المعين الخالص على التغلب على تلك المظاهر التي تدور في الخارج سلبية الذات أنت تعرف للبشر ذوات عدة مهما حاول توحيد تصرفاته فأنه لن يفلح في عزل الذات التي يحاول أن يبقيها متميزة عن ذواته الأخر التي لن تتوانى عن استرداد أدوارها

هل كتبت شيئا بعد هذه السنوات الطويلة من القراءة

ـ نعم كتبت بعض الأشياء ابتدأت بالشعر كما جرت عادة العراقيين أقصد

ـ عادة بشرية كتابة الشعر عادة بشرية فطرية لا أدري أن كان هناك من خاض في عالم الكتابة دون أن يكتب في بداياته شعرا وبعد كتابة الشعر كتبت بعض القصص

..قصتك التي ارسلتها لنا من باريس قرأت قصته التي ارسلها لهم من باريس

صورها وهي في الابتدائية

صورها وهي المتوسطة

الاعدادية

الكلية صور زواجها





بعض اللوحات المهدات الى والدها

استعيد ذكرى صديقي الذي كان يسمي الاشياء بغير اسماءها فالعلبة التي نسميها قوطية كان يسميها قوقية والدرج جرد والحسين السحين والتكي كتي والدجاج جداد والصول لوص



خذي مثلا دول الخليج وتحديدا تجربة الإمارات أوربا كلها منبهرة بتجربتها وهذا كلام من شخص على دراية تامة بما يحدث هنا خصوصا إني اعمل في بريس شوب لبيع الصحف والمجلات لا تمر مجلة أسبوعية أو شهرية إلا وأفردت العديد من صفحاتها لما يحدث في الإمارات من نقلات نحو الأعمار والبناء وفق احدث الطرق والابتكارات الهندسية

أما نحن فنتفنن في هدم ما تبقى لدينا من خرائب

في البلدان العربية لا يحصل العراقي على أقامة أو فرصة للعمل في أي بلد عربي بينما العراقي يجلب الأجنبي ليعمل لديه







أدرت التلفاز على قناة أخرى فظهر على شاشة واحدة من القنوات رجل دين ملتحي ووراءه لافتة تحمل شعارا طائفيا ويحيط به حشدا من الوجوه الكالحة ولسانه الفصيح بتقية قذرة يسكب زيتا فوق نار

قالت أختي أرأيت هذا الملتحي

ـ أنه واحد من الذين أنزلوا سراويلهم للغزاة كان الرجل يألب الشمال على الجنوب والشرق على الغرب على ا ويحرض حتى على الأقربون من أبناء طائفته





كان أفراد من شعب الأنكا يمدون جسرا من الحبال بين جبلين من جبال الأنديز في أمريكا الجنوبية



أدبس أحلس بين أليتيه يكمن الله هذه ليست عبادة هندية

مؤخرته الموسيقية العب على اوتارها بأصبعي بريشتي الغليظة واصبعي المجعمر

قبل فترة ليست بعيدة شاهدت على أحدى القنوات الفرنسية تقريرا عن مهرجان أفنيون المسرحي في جزء منه يتحدثون عن عرض مسرحي قدمه مجموعة شباب توانسة يشنعون فيه بشخصية السيد المسيح دون أن يعترض أحد من الفرنسيين على ذلك التشنيع في حين أن المسلمين ملئوا الكون احتجاجا وصخبا من أجل الرسوم الكارتونية للنبي



مؤخرة جيمس أنسور مثل ثقب مؤخرتي الذي من خلاله يتم استخراج كل ما تبتلعه معدتي من قاذورات

أدخلته ببالوعته وحين ملصتة بعد نوبات دفع وسحب خرج ملطخا بالغائط

يمتاز بجمال سوريالزمي تبنيط وتتكيم ثم أدوكر لم ينم تحتي إلا بعد أن وشم صورة عربيدا على عربيدي ثم جلب حلقة ناعمة الملمس وسبرنگية الحركة ومطلية بماء الذهب الأبيض وألبسها في لحم قضيبي غمر رأسه بالعطر بعد فترة من التخريط والتمطيط عصر عليه دمعتين من عصارة الكريم ودهك الحشفة حتى تصلبت واحمرت من شدة التورم حتى بان لي كأنها ستنفجر كرأس صاروخ مجهز للإطلاق أنزل سرواله تحت الركبتين ودفعني برفق على ظهري وهبط عليه بتؤدة حتى مطگ الرأس مطگته اللزجة بعد أن عبر غابة الشحم الأولية وداس على سكة الحلقة التي تتبنط بسن وواشرها اللحمي المطاط نهاية كل ظيز والتي ترتد ارتدادا مطاطيا ما أن ينزلق الرأس بكامله في حمم الحوض الواسع فتعود الحلقة إلى نصابها الأول ضاغطة على ذيل العربيد ومرتكزة حافتها الخارجية على الخاتم السبرنگي الذي يحكها بملمسه الناعم في رحلة الهبوط والصعود



أخرج من محفظته صورة تجمعه بجيمس أنسور وهما متشابكي الأيدي ويسيران جنبا إلى جنب على ساحل البحر,ألتقطها لهما الغيران روبرتو البرازيلي الذي كان يلاحقهما كالظل لساحل العراة خلال أيام الصيف وفي أيام العطل الأسبوعية وحين كان يفرش منشفته على الرمل الساخن ويخلع ثيابه قطعة بعد قطعة بغنج وتباطؤ مقصود لأجل الإثارة وإظهار مفاتنه الخفية وحين كان يتعرى بالكامل ويتمدد تحت شعاع الشمس باستمتاع ونشوة ويتناعس بغنجه المليء بالإغواء الذي يظهر أن الولد في حقيقته ما هوا إلا بنت جموحة أطاش سلوكها الدلال الزائد والركض وراء الرغبات الشهوانية الطافحة ثم يقوم بقلب مؤخرته ناحية شامخ بعد أن يسحب ركبتاه ويلصقهما بصدره بشكل مبالغ فيه لتنكشف معالم أليتيه وينفرج قوس شرجه أكثر فأكثر فتنكشف قفيرة نحله وسورة حفرته وينام نوم كاذب ويشخر شخرة خفيفة يتراخى خلالها جسمه الأملس لعله يفلح باستمالة مشاعره وإثارة غرائزه بتلك المحاولات المكشوفة من خلال تلك الأساليب والحركات التي يقوم بها أثناء ذلك النوم المفتعل وهو يمني النفس بأن يحصل على بغيته بواحدة من سلسلة الحيل التي يجيد أداءها أمام الرجال الذين تميل مشاعره نحوهم ويجد الخبرة تخونه رغم سعتها ولا تسعفه في بعض الحالات بتكوين صداقة حميمة تتعدى المجاملات والبرتوكولات الاجتماعية وغالبا ما نجح معهم من خلال وسائله وحيله الشتى التي تعلمها للإيقاع بالرجال الذين يرغب بهم حتى لو كان ذلك النجاح لم يتعدى ظرف ليلة واحدة مهما كان شكلها حمراء أو صفراء أو خضراء

وهذا كل ما تمناه من سعيه وركضه خلف هذا العراقي الذي لا يريد منه أكثر من ليلة واحدة ينام فيها تحت خرطومه البري الثقيل الذي لم يسبق له أن رأى ما يضاهيه بين معشر الفحول الذين غرق تحت مجاديفهم في مطارحاته الغرامية السالفة ولم يحظى بمشاهدة شيء كشيئه لا في أفلام الهومو سكسويل ولا في صور المجلات الخاصة بالجنس الثالث مثيلا لقياسه ونوع رأسه الذي يميل إلى التقرنص منه إلى الخشوع تحت قلفة شحم عمياء تماثل قبعة رخوة على رأس طفل بينما سلاح هذا الأدبس الرابي في بلاد الصحراء والتمر الخستاوي واللبن المحروگ على رأس عيره عمة سودانية وثلمة مروشنة تنحني تحت انحناءتها الشرايين و الأوردة ومشيفة الشكل تسور حوافه المنحوتة كرأس الفطر ولكن باستدارة مضبوطة على رأس ينتصب فوق رقبة طويلة حرشفية الأطراف,ومخرط جلده بالأوردة الغليظة فالأسلحة التي خبرها في مطارحاته السالفة أسلحة مسيحية المنشأ بيضاء يقطينية الشكل فاهية مثل طعام اللهانة مخروطية ورؤوسها قابعة تحت لفائف الشحم التائخ الذي يشكل فوقها سقيفة هشة وهو نتيجة تجاربه الكثيرة أصيب بالملل من نومه تحت تلك الأنابيب التقليدية التي لم يجد في مطارحاته الغرامية وخلواته الحميمية مثل الميزة التي يمتاز بها رأس سلاح مشندخ مثل سلاح هذا العراقي الذي فاز به جيمس بطريقة مثيرة للعجب وظل يتنعم بلبنه الرائب وبحسائه الساخن لأوقات كان هو يتحرق فيها ويتشوى من شدة الرغبة التي سببت له حكة وألم ما كان بالحسبان

فهو جميل ورقيق ومواع أزيد من أحلى بنت على وجه الأرض حتى أن الكثير من المعجبين كانوا يصفونه بمارلين مونرو الجديدة حيث أن له ذات الامتيازات التي تمتاز بها الراحلة له ذات الطلة المونروية المبهرة والعينين الحسيتين المعبرتين واللمحة الغرائزية الساحرة المشعة بشكل دائم وتدريجة الشعر الذي يحرص على لفلفة خصلاته البراقة بشكل دائم برولات مخصصة لتلك الغاية وله أيضا ذات النظرة المونروية الآسرة ونفس تكويرة الصدر المنفوخ بشكله المثير للشهية وانفراجته كانفراجة صدر الفقيدة الذي جن بسببها المئات من عشاق الشاشة البيضاء من الأمريكان وغيرهم كان جسده كجسد بنت تتفجر رقة وفتنة دون أن يأخذ أي مادة هرمونية أو حشوة سيلكونية ينفخ بها صدره أو شفتيه ولد ذكرا لكن من الإجحاف عده على جنس الرجال فالصبي أكثر ملاسا ونعومة ورقة من حواء ومن سائر بنات آدم ,ولد صافي البشرة بشكل لا يصدق حتى أنه لم يلجأ يوما لاستعمال مزيلات الشعر ومفاتنه الأنثوية تفصح عن جسد لا يختلف بقيد أنملة عن جسد فاتنة من فاتنات هذا العصر بل باستطاعته أن يتفوق بكثير على أي منهن حين يضع على بشرته الناعمة شيئا من ميك اب كريستيان ديور ويكحل عيناه بكحل لانكوم وهيلينا أو روبنشتاين ويرتدي في الحفلات الخاصة أشبه بالفساتين التي كانت ترتدها مارلين ويتفنن باتخاذ ذات الوقفات اللافتة ويؤدي ذات الحركات في التقاطه صور الأغراء التي اشتهرت بها مونرو أيام مجدها وشهرتها التي غطت أركان المعمورة خصوصا تلك الصور التي تكفل بطبعها أحد المثليين بمطبعته الخاصة لأجل إشاعة تقبل ثقافة الجنس الثالث التي مازال المجتمع يتعاط معها بازدراء وتحفظ,وبعد كل هذه الجاذبية و الجمال الخارق والأناقة التي يحظى بها يلقى كل هذا التجاهل والصدود من طرف هذا العراقي الوسخ الذي أغرم به بمحض صدفة إلى حد الجنون سحره بغفلة دون سائر الرجال حتى أنه بات يمني النفس بالنوم تحته لليلة واحدة ليلة واحدة وليمت بعدها كميتة جرذ أجرب وليمضي هو بعد ذلك مع هذا الكلب جيمس صائد الفحول الماكر والباحث دوما عن المزايا وتنوع الأجناس ..

لو ترك له الخيار بالفعل لكان قد قبل عن طيب خاطر بهذا المصير المأساوي في سبيل نيل تلك الرغبة التي أصبح الوصول أليها ضرب من ضروب المستحيل بعد أن حال بينه وبين نيلها بشكل قاطع وجود هذا المخنث الراخي جيمس انسور الذي لا يعرف كيف استطاع أن يغلبه بحركاته الأنثوية التي شدته وأغرت حتى الذكور غير المثليين فتمكن من إغواء الرجل وسرقته من زوجته وولديه دفعة واحدة لم يكن يدري روبرتو أن جيمس كان قد طبخ الطبخة وعزم على أخذ هذا الرجل من أسرته مهما كلف الأمر كان مستعدا أن يفلش العالم لا تفليش عائلة فحسب من أجل أن يستحوذ على مشاعر الرجل ...

كان قد خطط لهذا الأمر كما يخطط جنرالات الحرب الدهات ليلتفوا من وراء أعدائهم ويبسطوا سيطرتهم فحفر له بهدوء وروية كمن يحفر بئرا بإبرة لا ليخرج الماء منه وإنما ليحكم القبض على طريدته أنسل إلى قلب الرجل كما ينسل الماء من تحت كومة تبن تسلل شيئا بعد شيء حتى أستحوذ على مشاعره فتمكن من فصم الود بينه وبين أفراد أسرته بمدة وجيزة وقام بتوجيه دعوة سياحية للعراقي بعد أن تأكد تماما من أنه سيلبيها دون تردد أو تأخير وبالفعل هذا ما حصل فلملم أمتعته وأصطحبه معه لجزيرة من جزر الكناري البركانية التي دفعته حممه البركانية للتكفل بتذكرة سفره وتحمل كامل نفقاته ومصاريفه في تلك الجزيرة الباهظة الثمن وتعسل معه لأيام وليالي بخلوة فريدة بين ربوع تلك الطبيعة الخلابة في واحدة من أكثر الأماكن جمالا ودفئا في أوربا ولمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع بلياليها قضياها بعيدا عن أعين الحساد من طنطات أوستندة ثم عادا سويا بعد أجازتهما التعسيلية تلك يدا بيد من تلك الرحلة المباركة التي يمكن عدها شهر عسل بين عروسين وساد الوئام بينهما من لحظتها ولم يحصل أن افترقا بعدها بتاتا..



,قبل وجه جيمس بشوق ولوعة وهمهم بتهدج وهو يلوب من شدة أوجاع ضربة جيمس الغادرة .. أينك يا خلي وخليلي الضائع

ـ أين أنت الآن يا جيمسي الحبيب ..قال بألم وهو يتلوى من طعنات السؤال وسكاكينه الجارحة.. قال بصوته الباكي..في حضن من ترقد الآن عاريا وأي نوع من اللحم المتصلب تبتلع مؤخرتك الصافية التي لا تعادلها كنوز الدنيا أجمعها بل كل ما في هذا الكون من نفائس لا يساوي عندي مقدار رطل واحد من لحمها من ماسها وياقوتها وذهبها الفاخر

في هذه الليالي الساخنة

بل والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي لما تركت مؤخرتك تنام في حضن غيري وما بدلت تبديلا

أين هي تلك السعادات الأيام التي كنت تغفى فيها مثل فراشة حميمية بين ذراعي وتغني لي أغاني جاك بغيل عن الحب والفراق ترى أكنت تستشرف النهاية التي لم أكن بعد قد رأيتها هل كنت معميا لهذا الحد بهالات خادعة من غمام السعادة المؤقتة الزائفة التي لم أعثر على وجودها قط مع أي أنثى من الإناث اللواتي تعرفت أليهن من قبل حقا أنني لم أدرك معنى الشراكة الحقيقية وأحس بدفء الأسرة الحقيقي بسواك كم كنت غبيا ومخطأ ومخدوعا حين انجررت وراء النساء المتبطرات كنت غبيا حين ارتضيت الزواج من امرأة توجع لي رأسي بأحاديثها التافهة وطلباتها التي لا تنتهي واقتراحاتها الغريبة كان علي أن لا أقدم على مثل تلك الخطيئة وترك معاشرة فاتني اللذيذ الذي عاظم لدي الشعور برجولتي وأنك رجل الرجال وفحل الفحول فلماذا الانجرار وراء مؤسسات الزواج التقليدية والهرب مما يحسب من قبل الكثيرين من أنه انحراف وشذوذ أخلاقي

أيامنا وليالينا التي عشناها بسوريالية محضة كنا نبتكر فيها نحن الاثنان ألعابا وأنواعا جديدة للحب طرق لم تكن بعد قد اكتشفت حتى من قبل دالي وجيمس انسور نفسه السورياليزمي البلجيكي الوحيد في القرن العشرين من فنون وخروج عن المألوف

آه لو كنت جيمس انسور بالصوت والصورة لتخلدت مثلما تخلد فرلين بسبب مؤخرة رامبو آه لو كانت مؤخرتك رامبوية الشكل لركبتها ودخلت نادي المشاهير

لكن من أين الفگر فگر آني ما يوگف بطريقي غير ألي طيزه مدوود مو الي مدود بسبب الشهرة أين هو بودلير وأندريه جيد أليسوا هؤلاء فرنسيين ومؤخراتهم فرنسية الأصل أبا عن جد وهذا ايضا فرنسي أصلي

كنت أسريله بمؤخرتك كل مساء وأقول سأنجح برسم لوحة تصبح فلتة من فلتات هذا الزمن

ليالينا الأنسورية

كانت منفعلا حينها وأقسمت بمؤخرة جيمس أنسور

حين تعلقننا بغصن شجرة اليوكالبتوز الغليظ ونحن عاريين جلست في حضني

وكان ذلك يغيظني

من قبل أجهز على نساؤهم مصطفى سعيد وجئت أنا لأكمل على رجالهم سأنتقم من بلدانهم بلد بعد آخر إذا نكحت ألمانيا فأني أكون قد هزمت النازية وذابحي الشعوب كل واحد من هؤلاء أبطحه على بطنه وأكافح دودته بسموم سائلي الفائر كلما فقعت مؤخرة شاب أوربي أحسب نفسي قد قمت بافقاع نجمة من نجوم راية الاتحاد الأوربي وعلى هذا المنوال كنت أنال من القارة العجوز بمضاجعة رجالها هم يخطفون منا نفطنا وأنا أجردهم من رجولتهم لم أوفر أحد من الأمريكان والانجليز والفرنسيين وأطرف قصة من تلك القصص التي نمت بها مع رجال الإفرنج هي حكايتي المرحة مع شاب فرنسي يدعى سايمون كان يشتغل معي نادلا في المطعم فبعد أن بدا الإعجاب واضحا على معاملته لي كانت قد نشأت بيننا علاقة من تلك العلاقات التي كنت أقيمها مع الفتيان الحلوين الذين يملكون شققا جميلة فأذهب معهم لآكل وأنيك وأنام مجانا وحتى أكون صادقا كانوا في صباح اليوم التالي يعطونني مصرف جيب ويشترون ألي علبة سجائر وملابس داخلية لا ألبسها إلا في النوم معهم لأنها تضايقني بشدة ضيقها فأقوم برميها أو أجمعها في حقيبة وأبيعها في الأسواق الشعبية عند الحاجة

أدخلني سايمون لشقته الباريسية الجميلة في تلك الليلة الباردة بعد أن أشترى لنا كبابا من مطعم تركي وزجاجة شمبانيا ومازة وأبتاع لنا ستة وردات حمر من محل يقع على مقربة من أحدى الديسكوات الشهيرة الذي يبيع الورد للفتيان والفتيات الذين يقدمون الورود لأحبتهم قبل أن يباشروا الرقص والسهر الذي يمتد حتى ساعات الصباح الأولى حط الوردات الستة في زهرية جميلة ثم سكب في الزهرية قدحين من الماء ووضع قطعتين من السكر وتركها على المائدة جلب صحنين كبيرين وحط عليهما قطع الكباب الذي أخذت تفوح منه رائحة السماگ المطحون بعد أن فتحت الأكياس أفرغ خلطة السلطة في طاسة معدنية ونشر على الطاولة شوكتين وسكينين

ووضع بين المائدة علبة مناديل ورقية وقام بتشغيل الراديو الذي كان يرسل عبر أثيره أغاني فرنسية جميلة

فتح زجاجة الشمبانيا وعب منها قدحين قدم وأحدا منهما لي وقال بعد أن رفع قدحه ودناه من قدحي:

ـ بصحة ليلتنا هذه... رن صوت القدحين بـ كواك منبهة وأجبت مازحا:

ـ بصحة فلوبير... رد ضاحكا بعد أن نظر لصورة فلوبير التي كانت تتوسط جدار صالة الجلوس:

ـ بصحة فلوبير...

اجترعنا نصف زجاجة الشمبانيا مع تناولنا الكباب التركي اللذيذ والتهمنا معه خلطة السلطة العثمانية الشهيرة والخبز التركي المحمص قال الآن تعشينا فخذ لك حماما وسأخرج لك من الدرج منشفة وبيجاما حتى ترتاح قلت أنا مرتاح هكذا:

ـ خذ أنت أولا..

دخل سايمون ليأخذ حماما وتركني جالسا على المائدة أطالع محتويات الصالة وأحدق بالصور المعلقة على الجدران, لوحة فاكهة مستنسخة لفريدا على جدار المطبخ المفتوح على الصالة وأخرى فيها شلال ماء وصورة لرجل أفريقي متجهم ذكرني وجهه بوجه الممثل الذي يؤدي دور وحشي في فلم الرسالة يقف لصقه سايمون وقفة ذات مغزى وصورة للمسيح وهو على الصليب ثم صورة فلوبير بشاربه المضحك ولباسه النابليوني الجميل الوقت كان يقترب من منتصف الليل ماء الحمام أخذ يبربش والأغاني الفرنسية القديمة والحديثة تجري جريان الماء من المذياع أديث بياف أيف مونتان ميراي ماثيو سيلين ديون جاك بغيل الذي لم يدع لي صوته الجارح مجالا أو مهربا من ما تختزنه ذاكرة الماضي التي تعشش فيها الإحزان فأنجرف دون أرادتي صوب ماضيي اللعين صوب طفولتي الضائعة وشبابي المحترق ولولت مع صوت جاك بغيل الذي كان يغني عن الفراق وأنا أجترع ما تبقى من شراب الشمبانيا حتى أجهزت عليه بالكامل

كان بشيش ماء الدوش قد توقف منذ دقائق وصاحبي لم يخرج بعد فخمنت أنه قد بدأ بالقيام بحملة تنظيفية على مؤخرته وصدق حدسي بعد أن ضاجعته على سرير حجرة النوم وخرج منه قضيبي دون أية لطخ خرائية عريته من سرواله وعراني من سروالي وقبل شيئي من وراء الشورت وعندما تم انتصابه أدار مؤخرته الإلهية نحو صدري لمست ظهره بوجهي وحككت له مخارج مؤخرته بحشفة قضيبي المنقوع باللعاب فسخن لحمه الدافئ على الفور تحت لهبي وأخذ عربيدي يتزلج على نهر ظيزه غرفة من لعابي ومسحت بسائلها رأس عربيدي وما تبقى قد دهنت به باب طيزه ارجع مؤخرته نحو رأسه المتورم وقال متوسلا أدخله أرجوك لم أعد أطيق الاحتمال

قلت له حاضر لكن

ـ ما رأيك لو نهدي هذه الليلة إلى ذكرى المرحوم فلوبير صاحب الصورة التي رأيتها على جدار الصالة

ـ لنهديها له.. قال وهو يكاد يشتعل بالرغبة

فتأسفت كان الأحرى بي إهدائها لأندريه جيد وبودلير وفرلين وباقي مجموعة الملاييط الفرنسيين

عدنا أنا وسايمون من المسرح الذي كان يعرض مسرحية بيكت العبثية ونحن نسير على الطريق رحنا نؤدي نفس الأدوار التي قام بتأديتها استراجون وفلاديمير

تواعدنا في ليلة أحد بعد أن ننهي عملنا أن نذهب سأنال منهم تذكر تلك المعابثة التي أفتعلها أمجد وهما سكرانين بعد أن مسهما عبث بيكت فراحا يتبادلان الشتائم وكلمات الإطراء كما جرى بين إستراجون وفلاديمير وبدأا تنحنح إستراجون وباشر الكلام وهو يقف بمواجهة فلاديمير:

ـ أنا أجمل رجل في العالم

ـ أنت أقبح من ظيزي

ـ أنت أجبن من إسماعيل ياسين

ـ أنت أبن قحبة

ـ أنت أبن شريفة بس داخل البيت

ـ أمك أتهرب نارية

ـأمك أكبر سمسارة في بائعات الهوى

ـ سحاجي..

ـ صابوةنچية

ـ فوار

ـ حي الطرب

ـالفجر

ـ الكمالية

ـ أبو غريب

ـ لوطي

ـ مليوط بيك

ـ أبو أربود

أبو خيار

ـ معيدي

ـ ملطلط أبن الملطلط

ـمعدنوس

ـ أختك يراد لها فلترة

ـ أختك يراد لها تبديل بساتم

ـ أي مو أختك عدها رگلة بالدبل

ـ أنت تافه

ـ أنت قمامة

ـ أنت زبالة

أخفش الرأس أكلع البدن

ظننت أن مؤخرته اللذيذة كانت تمثل مؤخرة الله المنزلة للأرض التي لا تمنح سر طراوتها إلا لقلة من البشر لذلك فضل الرب حليب قضيبي الأبيض على خرق ظلمتها

كانت هي خزانة الألم ومغرفة الأماني ومركبة الخروج على المعروف فقد منحني طينها الرخو الفرادة

قرأت على دفتر من دفاتره مسودة رسالة كان يدبج بها لخطيبته التي هاجرت بعد مدة من رحيله

( أغنية إلى آلتي الموسيقية)

ريشتي في الهواء أمد أليك يد النسرين حتى تحطي على أسلاك شمسي كما تحط الجداجد



قد أبدو في هذا الصباح على عجلة من أمري وأنا الملم شرودي محاولا أن أكتب أليك عما يجول في خاطري ألانني ملزم بكتابة ريبورتاج عن الطائرة التي قصفت منزلا تسكنه عائلات من السود

أتذكرين أيام كنا يافعين في فترة المدرسة الثانوية نرمي العصافير المفرفرة بالحجارة وهي تفر من غصن لغصن ومن شجرة إلى أخرى ونحن لا نكف عن ملاحقتها لا أدري إلا أني فلتت للتو من حلق السبع بعد أن رشقني رجلا ملثما بصلية من الرصاص من سيارة مسرعة ومضى دون أن يدقق أو يتأكد من أنه قد حصل على بغيته

وتناولت ورقة من أوراقه تحتوي على مشروع قصة من قصصه فتحت ثنيات الورقة وقرأت





سحب ورقية مظلة في الهواء الرؤى الدامية قرأت هذه العناوين التي لم يستقر على واحد منها في الهامش

رحت التهم التراب خلت أمي ميتة فخيرني أحد قاطفي الأرواح بين أن ألتهم طبق من تراب قبرها وسينفذ وعده ويعيدها لي أو أنه سينهي الأمر ولن يبت ثانية بهذه المسألة فرحت ألوك بالتراب وعيون أمي





بعد أن أكملت تأطير المرآة على أكمل وجه , قمت بوضعها على الجدار المقابل للجدار الذي كانت صورتها عليه فجاءت بحجم صورتها تماما, كان يتوسطهما ممر ضيق, ذلك الممر الذي جعلته يكتظ بأشيائي القديمة التي تتكون من خليط من أواني معدنية وصحون زجاجية قديمة وبعض المنحوتات النصفية وهياكل لآلهة الجن وتماثيل لهنود الاسكيمو تمسك برماحها الخشبية بألوانها البنية وأثاثات قديمة أكل الزمن عليه وشرب كما يقال في العادة دون أي توضيح نكاية بالأشياء التالفة..

صور محطمة لم يتبقى منها سوى إطارات متثلمة ولوحات يعوزها التكنيك غطتها عتمة الغبار نتيجة إهمالها وتركها لفترات طويلة دون أي عناية أو تنظيف بشكل دائم ..البعض منها كان شبه محطما والبعض الآخر كان سليما ألا أن أسنان الزمن أفقدته نظارته ,فأمسى واحد من الأغراض التالفة التي لا تستحق إلا أن يلقى بها في متحف النهايات المعتمة كم بدت لي في وقتها مألوفة تلك التسمية الرثة

ليس بسبب فنتازية هذه الحياة بالطبع وإنما القصد أن لا ندع هذه الأشياء تشغل أي مجالا حيويا من أمكنة المنزل الذي تم تجديده منذ وقت قريب وهذا التحديث كان قد تم بالفعل ويستطيع أن يلاحظ ذلك أي صديق أو ضيف يدخل بيتنا..

كانت صورة جدي لأمي قد نصل لونها ,فرميتها مع صورة أخرى لأبي وصور عديدة لأخوتي الذين أمقتهم وكذلك صور أصدقائي الأدنياء الذين سحقت بحذائي على كل ما يتعلق بذكرياتي معهم

ألقيت بكل تلك النفايات بين اللوحات القديمة التي جاءتني من رسامون هواة كانت عليها بعض الأهداءات المبالغ في ثناءها التي كثيرا ما ذكرتني مضامينها بالوحل والرياءات الاجتماعية السخيفة..

أرغمت نتالي على إنزالها من علي جدران الصالة وأخليت منها جميع أروقة الدار, فرمت بها هنا فوق ركام هذه الأشياء المهملة, قبل أن أختر لصورتها مكانا عشوائيا .. قست المسافة من ناحية أكثر الزوايا قربا بمكيال خشبي اصفر اللون ,

حددت الأبعاد بقلم الرصاص قبل أن أقدم على دق المسمار الذي سيتكفل بحمل المرآة..

أتممت كل شيء بإتقان وهدوء أحسد عليهما حتى لاحت ألي الصورة على بدن المرآة وكأنها صورة طبق الأصل .. صورة المرأة التي تركتني بشكل مفاجئ وذهبت لتنام عارية بين ذراعي عشيقها السافل دون أن تطلعني على شيئا من أسبابها؟

لم تترك عنوانا أو رقم هاتف ثابت أو جوال كما ,أنها لم تذكر ألي عنوانا أو سببا موضوعيا يبرر مدعاة هذه الفعلة الشنيعة التي لن تقدم على ارتكاب مثلها إلا بنت من بنات (الصابونچية)*, لم أجد بقايا أو مخلفات في أثرها سوى ورقة بعرض أصبعين كتبت عليها بضع كلمات تقول : لا تقلق كثيرا أنا ذاهبة للعيش مع صديقتي التي لا تعرف عنها شيئا ولن تعرفها في المستقبل.)

ـ مع من ذهبت بنت االعاهرة تساءلت بفورتي اليقينية؟

كان أسمها (نتالي)

أتذكر الآن أسنانها البيضاء وهي تلوك على مائدة الإفطار قطع (الكرواساه)المحلاة بمياه السكر الذائب مع مصة من فنجان قهوتها الصباحية الساخنة التي اعتادت أن تختمها بشفطة,تصدر صوتا لذيذا يبرهن على حسن ذوقها الرفيع ونشاطها وحيويتها اللذان افتقدتهما في عزلتي الحياتية ..انبريت أرقب متسليا وأنا أتتبع حركة فمها المطبق ورأس لسانها الوردي وهي تقوم بتمريره بين الفينة والفينة على دبق السكر الذي بقي غباره عالقا بزوايا فمها كفتات كريستالي مهشم وهي تلعقه بدقة ونعومة فاتنة وأنا أتظاهر متشاغلا بالنظر كأني إنسان آلي بلا مشاعر ولا أحساس إلى ضوء الشمس المذهب الذي أنسل عبر زجاج نافذة المطبخ وانصب على بلاط أرضيته , بعد أن تسلقت شمس الصباح فوق قبة أوراق شجرة الغار التي كانت تشغل مقدمة حديقة البيت الصغيرة كانت تهز أوراقها بلين رياح أغسطس الفاترة وترفرف فوق أوراقها اليانعة زمرة من العصافير والجداجد :

وضعت هيكل المرآة قبالة صورتها بالضبط بعد أن تمعنت في غور ملامحها مطولا كما يتعمق السكران في نظرته التائهة

كنت مشتت المشاعر وخزنتي خالية من الأحاسيس ألهو في التحديق بملامحها الملائكية التي انطبعت على زجاج المرآة بتلقائية الأحلام, كان كل شيء قد هيئ بقدرة خفية للتنفيذ ,أدخلت ورق الطابعة الموصولة بـ جهاز الحاسوب وأحضرت ورق التكبير وحوض التحميض بمائه الذي بدا ألي أسودا في الليل كسائل الفحم ,كان ممددا كنعش في الغرفة المدهلزة بالظلمات مثل قبر فرعوني هائل يتدلى من أذني التاريخ..



الكاميرا كانت مهيئة وفي داخلها فلما من أجود الأفلام وفي لحظة ما كان يمكن لي تخيل حدوثها في أشد لحظات صحوي استهتارا وسفالة,وبعفوية كابوسية قل نظيرها هوت مطرقتي الصغيرة على قلب المرآة اللامع, بصوت راعني بقسوته, حين كز زجاج المرآة تحت وقع نزولها .. كز , كزا خفيفا وحادا مثل فأر وجد نفسه بين فكي مصيدة لا تعرف المهادنة فقرض بأسنانه المعدنية قرضة المضطر على حجر النهاية فتشقق وجهي المذعور على لوح زجاجها تحت رهبة ضربتي المباغتة التي أرتني فجاجتي وحطام ملامحي اللتان تجسدتا على لوحها الناعم بسرعة عاصفة هائلة السرعة مزقت مطرقتي شرايينها الزجاجية دون أن تفقد ولو كسرة من سائر لوحها الزجاجي ,تناثرت بثور وسواقي الشقوق على وجهها طولا وعرضا كلوحات المهلوسين العنكبوتية من أمثال جاكسون بولك,

غاصت دهشتي في ملامحها وأنا متربعا في جلستي على بيضة قابيل وجهي بوجه المرآة التي لم تعد تستحق أن ننعتها بتلك التسمية التماثلية التي تنعكس على صفحتها صورنا وتبان من خلالها ملامحنا الحقيقية وتتجلى بشكل لا لبس فيه تكشيرتنا الفظيعة بلا رتوش ولا أصباغ ملينة..

ووجهها الخامل ذو الملامح الكسولة التي تمنحك السهو ّأذا ما طالعتها مطالعة تأملية, تلك الملامح ,التي تخلت تماما عن ملائكيتها بعد أن نالها ما نالها من خراب وتدمير سرعان ما فتئت أجزاؤها تنفر من بعضها البعض.. زد على ذلك كله أن أحدى العيون قد فقئت لأن مجموعة من الشقوق قد تفرعت من باطن البؤبؤ المفقوء بكثافة شديدة كغصن كث الأوراق, فدفعتني دفعا لإحصاء القبح وعد التشوهات التي أصابتها , حتى خلصت , من أنها لم تعد تطاق بشكل مطلق ومن الآن فصاعدا على قلبي أن يكف عن الاضطراب حين يكهربه رجع صوتها أو تأسره ذكرى لمسة من لمساتها الحريرية ..

ها أنت خالية كدمية متيبسة بلا روح ولا قلب أو ملامح..فقط لمعان شقوق المرآة التي تزخر بها عتمة القلب التي خلفها غيابك الفاره.

تجشأ صدى هذه الكلمات في أرجاء روحي بعد أن قمت بوضع سندان الوردة الذابلة فوق رف المرآة الذي صمم من قبل في أسفل أطار صورتها التي يتساوى ارتفاعها وارتفاع مستوى المرآة التي أطرتها من قبل..

أشعلت الضوء المتكاسل الذي اعتادت على نعته ـ بالمسموم..فأضحى كل ما في {الصورة =المرآة } يصد العيون صدا ويعمي النظر كالأضواء الكوكبية المتناطحة, وبينما كنت منهمكا في النظر بين الصورة وانعكاسها في المرآة رن جرس باب بيتي مرتين أو ثلاثة مرات بشكل متواتر ..

لم يخطر لي أن افتح بابي الموصد بإحكام ,لأن قلبي ساعتها كان مقفلا بوجه كل ما في هذا العالم من كائنات وأيائل وفراش ..

مرت برهة صمت مخملية كدهر تأمل أثناءها الطارق أن تمتد يد بلهاء في هذا الليل المزوبع لتمسك مقبض الباب وتجرؤ على دور مزلاجه المعشق وينفرج أمامه الوضع ويدلف رغما عني أو مرضاة مني لكن هيهات أن يبلغ الطارق بغيته وأنا في هذا الوضع المزري

طرق ثانية ساد صمت قصير ثم طرق للمرة

الثالثة

والرابعة

لا أدري أن كان يسمع صمتي ويشعر بسخطي واشمئزازي واحتقاري



وتمنيت عليه وعلى حثالة الخارج أن تأخذ روائحها وتمضي مع الريح العاوية في فلات هذا العالم

قلت ببغض :

عليه أن يختصر الطرق ويدع جانبا عناده البغلي وعبثه اللامجدي هذا ويمضي في سبيله لكن سرعان ما ركبته من أذنيه ثانية وطاويط الرعونة الصماء فدق ألي بتحد وبغلواء الكترونية من جواله على هاتف البيت وحين لم يجد مني جوابا أو ردا على طرقه ونداءه المتواصل سارع لمهاتفتي عبر هاتفي الجوال.

قلت : بلؤم وإصرار وعنجهية عمياء ..

ـ قلبي مختوم بختم شمعي, لن أفتح بابي لضباع الليل ووحوش وبراغيثه التي تهمهم حولي

لن أدع أصابع المنايا تعزف على وتري وتمزقني أربا ,أربا..

لن أفتح بابي يا هذا صرخت بصوتي المجلجل وأضفت

لن أتحدث إلى أي عابر أو صاحب أو صديق أو أي زائر من زوار الليل, لن افعل شيئا من هذا قبل أن أتمم ما في يدي من مهام ينبغي علي انجازها مهام أتضح لي أن انجازها عسير جد,

أغمضت عيني وأنا أدير استدارة الوردة الذابلة صوب المكان الأكثر جراحا في قلب المرآة المحطمة لكي يتضح اثر الهجران ويسيل سكر الألم المر من ثقب قلبي المطعون بشفرة ورقة لا يزيد حجمها عن عرض أصبعين

جلبت كآمرتي وقمت بـ أخفات ضوء الممر بعد أن ألبست المصباح كيسا من ورق الجرائد العتيقة وسحبت زر كشاف الكاميرا الفضي الذي مرق مثل برق خاطف في ظلام حالك وأنا كنت شبه (مسكربا) أسبح في عتمة قبر هائل

في سيري كنت أرفس جثثا تتناثر من حولي واخطوا بذعر فوق أرض كأنها ستنقلب فوقي وتطويني بين طياتها وثنياتها الصخرية ,جلست بموازاة الهشيم الذي توزع بين الإطارات المذهبة, تأملته قليلا وأنا ذاهلا أحصي بتيجان هزائمي التي ازدهرت علاماتها فوق رأسي كمجنون روعته خطاطيف الرؤى الأخطبوطية

{الصورة الأصل} فوق رأسي تماما والمرآة التي {تمثلت=الصورة } قد قمت بحصرها بين زوايا عدستي قبل أن أكبس على زر التصوير شحطت {رولة} الكاميرا شحطة متعسرة تجشأت خلالها وتحشرجت حشرجة خفيفة عند سحب الصورة الأولى ..

أخذت لها صورة صورتان ثلاث وعندما تأكد لي نجاح محاولاتي , بعد أن ظهرت الصور وهي تتالى تباعا وبشكل آلي وعلى أحسن ما يرام على شاشة الكمبيوتر الضخم الذي يضاهي بحجمه شاشة سينمائية ..

لم يتبقى لي بعد ذلك سوى كفكفة لؤلؤ الأشياء ورمي حطام المرآة مع إطاراها المذهب في حاوية النفايات وتحويل وجه الصورة التي لم يصبها أي أذى أو ضرر يذكر صوب الحائط الذي ازدادت صفرته وكلح بدنه مع ازدياد الظلام فتلاشت الأشياء واختلطت في بعضها البعض ... وكل ما كان يتعين علي إنجازه قد قمت بتكملته..

ظننت أنني قد أتممت كل شيء برضا تام وهذا ما أراح أعصابي بعض الشيء, لكنني بقيت بين الفينة والفينة أحدق كالمخذول بالوردة الناعسة التي تكرمشت وتلفلفت على نفسها وشاخت أطرافها المحترقة

شيعتها بأحزاني الرمادية حين غدا قفا الحياة مشققا ورثا مثل بنطلوني المتهرئ الذي أعارني إياه أحد المشردين في حديقة الأمة

سيسافر وجه الحبيب في الحائط الرطب ويغدو نسيا من الألم..قلت بعد أن جلبت الصورة {الحطام}ووضعتها فوق ظاهر الصورة الأصل التي وجهها ناحية الحائط الرطب في ذات الممر الضيق الذي صار مأوى ومسرحا لتقافز الفئران الكريهة ومخزنا للأشياء القديمة , التي أخذت أتعثر بأشلاء حطامها بسبب كسل الضوء الشاحب الذي كان يواءم جو الإهمال ,الذي حفل به المكان لحظتئذ لم أحرك شيئا من الأشياء كي لا أثير رفلة طبقة الغبار الذي تدثرت به تلك الأشياء القديمة كلحاف سميك ..

تلفت حولي فلم أر غير النجوم التي شاق ضوءها وأخذت تنطفئ بتتابع عجيب مثل صف من الفوانيس المتدلية بأسلاك معدنية هشة راح يؤرجحها الهواء العالي ويصيبها بلعنة العطب المسلي الواحدة تلو الآخر على امتداد درب طويل يبدو ممتدا بلا نهاية..

فترجرج العالم بي و أنفتل كما ينفتل ديلاب الهوى المكهرب وطرت بعيدا كما يطير صوت النغم كخفقة وتر مقطوع خفق بطرننن صوته الموجوع وسرعان ما هبطت على جناح السرعة التي طرت بها لكني كنت أتهاطل في داخل جسدي متجعدا كقميص متجعلگ مطويا حول نفسي كصرة أمي أيام كنا مشردين من حولي تزأر الريح وتصأى الصراصير على هواها

فوجدت حذائي ينقذف عاليا في الهواء كسهم ناري فأبحرت كأني كنت أسبح حرا على سطح المريخ فرفعني الغيم الداكن حتى أوصلني لمنازل القمر الوسنان..

توغلت في أحشاء الليل وجبت بين عوالقه ومضيت أفتش بين نجومه وكواكبه المعلقة بأسلاك الغيب كفوانيس رامشة بعينين قبحتهما فظاعة الفضول عبرت على مقربة مني ارتال من أشباح ووحوش ليلية وحشودا بأعداد لا تحصى ترفع رايات سود وتمضي متوغلة في نفق الليل الزاخرة بالدجى والظلام والجنون والجرذان أخذت تهطل كما تتهاطل السحب الورقية تسبح فوق سراب الأفق الخادع, كانت أشرعة تتلون من حولي وتسير بفعل الريح الرخوة وعربات صنعت من معدن الشمس تجري خلف خيول بيضاء , تخب فوق ضباب متكهرب..والريح تزوبع بجزع هستيري وتتسربل موجات من غيم رملي فوق قبب الأشجار, فتنشج الأرض ويتقدم من أفواه شقوق لا تحصى جيشا عرمرميا جرارا يتقدم نحوي بعزم وصلابة لا تلين , جيشا ربما أكبر من جيش الكسندر المقدوني يسير أمامه ملكا بطول شاهق عليه ثوبا ملكيا أزرق بلون البحر وموردا بنبيذ ياقوتي وفي أصابعه تلمع خواتم ذهبية عليها رسومات تاريخية , وفي يده الأخرى يحمل رمحا أسطوريا ..والجيش المتراصص يتدافع لأجل أن يشيل مليكه ويتقدم منفتحا مثل لسان مقص يدوي إلى نصفين ثم تتشكل بقدرة قادر أربعة أضلاع بصفوف لا أدري كم صفا التفت حول الملك العملاق وهو ينهي لوحة دامية الأطراف رسمها برمحه الطويل حطوها أفراد حاشيته على أحدى الأدراج فتبدت لي تتهاطل منها الأشلاء وتتدلى من زواياها بشرايين صمغية عيون تبكي ..

كان جنوده مغتبطين بشلال الدم المهروق ومزهوين بالأشلاء المتساقطة من سطح اللوح المرسوم,وبسرب العصافير المحترقة التي كانت تتهاوى فرادى وجماعات ..

كان بعضهم يرتقون أدراجا عالية جدا لأجل عقد أطراف حبال بصخور الغيم ويتأرجحون في قلب الريح لتصير مساند لأدراج أخذوا يتسلقون الريح بواسطتها ويبثون سحبا ورقية تفترش فوق جبال الريح وتتهاطل بألوان تزين سمائي وتبرقشها بسيل من أصوات خشخشتها التي كانت تعلوا فوق الريح وأنا أسهو على هدي الغيم وأمطر ذعرا تحت هطول الأجساد التي أخذت تفك حبال الريح وتهبط من دون رؤوس سابحة مثل جراد هليكوبتري يترتر بين غضون الليل ويسحق بحوادل أرجله على أوداج الغيم الدامي كانت تلك الأجساد تدوس على أكتاف الريح فينتفش القطن ويتضخم منتفخا كما تنتفخ بالونات (كاسك) في حفلاتها السنوية الشهيرة التي تقيمها في العيد السنوي للبالونات وتتنصاب فوق الأجساد التي هبطت للتو من غير رؤوس .. الرعد يجعجع والسماء ترسل أقراصا نارية وحصى وروث وأحجارا ضخمة غطى وجه الأرض فوجدت نفسي أمشي فوق حبال نارية كطير هائم على سور جسر خشبي معلق بين ضفتين لا يرفعه شيئا سوى أكمام الليل تؤرجحه فوق الماء الذي نطت منه عيون حمراء محاجرها بحجم كريات الفولي بول تبرز فوق جباه قطر استدارتها أعرض من غطاء برميل من براميل النفط , كانت تتلطخ بوسخ يتساقط من سقف المريخ ,برق يناطح سقف الليل ونجوم تتهاوى مثل كريات الثلج الهشة وأعضاء بشرية تهبط ثم تحلق فوق الريح ولحى تغطس في وحل الأرض وسيوف تلوح بها قبضات غليظة وأشلاء من لحم ودم بحجم مناطيد ضخمة تتناثر فوقي وغيوما ملأى بالوحل الصخري تمرق على مقربة من رأسي وبخار أحمر محشوا بأفواج من النمل الفسفوري والسمك البقري الدامع وأفيال البحر الجائعة تجأر وتثغوا من حولي وهي تفلي شقوق البيت وزواياه الخاوية بحثا عن طحالب أو يرقات , وجسدي مستعرا كالنار مشحونا بالكبريت وبالدنميت , وأنا محموما أبكي كطفل ضائع في قلب الصين

من هول الرعب وجسدي يغلي في كون تتفجر مدنه ومناراته تنهد على الأرض واحدة بعد الأخرى مثل قنابل عنقودية تتالى انفجاراتها وقلبي الراعش يسكب ماء فائر تحت سياط الذعر التي كانت تلسعني في الثانية آلاف المرات , غير الأشياء الصلدة التي كانت تهوي فوقي لكني كنت أتخلص منها بأعجوبة كنت أدافع عن نفسي كما لو كانت لي ثلاثين ذراعا أضرب وأصد كحائط أسمنتي كانت تتكسر كل الضربات على جسدي بكل ما أوتيت من قوة وأتحايل في رد الخطر الداهم عن نفسي حتى جاءتني لطمة أو ركلة من نتالي كانت كدعابة سماوية لا تأتي إلا بعد كسوف شمسي,فأزاحت عني ذاك الهول الأسطوري الذي كان ينصب على رأسي وانتشلتني كما ينتشل المنقذ ضحية من بين أنياب وحوش لا يرحم أو أناس من تحت الأنقاض ولحسن الحظ كانت هذه هي عادة نتالي أثناء النوم فصرخت بأعلى صوتي مثل المصروع فتناهى صراخي في أرجاء الليل كصوت الرعد حتى جنت نتالي رعبا ونهضت قافزة لتدرأ عنها هذا الخطر الداهم وقفزت أنا أيضا وتشابكنا بالأيدي كمخبولين جنا نصرخ ونتصارع مثل عدوين تحت ظلام الغرفة الحالك تقذفني وهي في فلك الرعب تدور فيسندني الحائط وأنا كنت بدوري أقوم بذات الشيء وأكثر وحين يحين الحين أهجم عليها مثل الأعمى فتتصدى لي وتركلني أهرب منها وأزوغ أراوغها وأرد لها الضربة تتلقاها وتهجم ثانية وبقينا على هذا الحال مابين الكر وما بين الفر نلعب بصخب لا يلعبه إلا من جنوا أو سقطوا في كنف ليل كابوسي من على ظهر سفينة في بحر صاخب وظللنا على هذا المنوال حتى أنفلق الصمت بسهم كبريق جرم ساقط من قوس الليل فنجونا معا من فخ الخوف كقتيلين خرجا من جوف القبر الذي لا رجعة منه فتنفسنا الصعداء وهدونا على مهل بعد أن خف الإنهاك ورجعنا نتعانق مرتجفين تحت لحاف الليل الدافئ نلتف على بعضنا بعضا كحيوانين رخويين.الريح تنشج وأعمدة المطر تتهاطل

كنت أضع على عيني وردة ويتقدمني خنجر









امكتوبا على هذي البلاد أن لا يحكمها سوى أولاد القحاب سفر على قطار الآخرة

ما أن مر الأسبوع حتى قال لي تفضل الأجازة انتهت

لماذا

هكذا أصبحت بعد رحيل جون

من هو جون

ذاك الرجل الذي أقف إلى جانبه في الصورة





















كانت الأشياء قد تغضنت وعراها البلى



































































الفصل الثالث





حطت بنا على أرض مطار بغداد طائرة الاورلانز اللبنانية بعد غروب الشمس بقليل هبطت بعد أن أفلتت قبل لحظة هبوطها بأعجوبة من براثن لسان قذيفة لا هبة كادت أن تطيح بها وتودي بالطائرة وطاقمها وركابها وترسل أشلاءنا جميعا إلى سفريات الآخرة لولا مهارة الطيار الذي تخلص منها ببراعة عجيبة وأظهر في لحظة الشدة دهاءا خارقا ورباطة جأش فائقة وتصرف بمهارة وحنكة يحسد عليهما بعد أن شاهد بأم عينه الصاروخ يشق الهواء وينطلق كالسهم نحو طائرته, أتاها مشتعل الذيل ومتوهج الرأس من بين أشجار البساتين ونحن كنا نطير بسرعة متوسطة فوق سماء بغداد الملأى بأغبرة الحرائق والمشعثة بالأدخنة الصفراء التي تنبعث أعمدتها من جبال المزابل وأكداس النفايات التي تحيط ببغداد ثم تلا الصاروخ الذي انتحر في الفراغ رشق ناري من أسلحة أوتوماتيكية خفيفة ثم تلتها مجموعة صليات من رصاص البنادق التي انطفأت شراراتها برماد الليل بعد أن خطف لمض وميضها ومر على ارتفاعها جزء من أعشار الثانية رأيتها من خلال الظلام تنطفئ بعيدا تحت جسد الطائرة الشاهق دنت الطائرة بحذر من أرض المطار وواصلت هبوطها شيئا بعد شيء دون أن يحدث أي طارئ أو مشكل حتى لامست عجلاتها بلاط مدرج مطار بغداد بسلام فهلل نفر من المسافرين على الفور بنفاقهم الديني المعهود ورددوا كلمات الحمد والشكر والتكبير وتنفسوا الصعداء بعد أن ضمنوا نجاتهم من لهب النيران فتبادلوا التهاني والعناق والقبل ومنهم من تمادى في المبالغة فأفترش أرضية صالة المطار المرمرية من شدة الغبطة وشرع يصلي صلاة الشكر بصوت مسموع ومنهم من دخل في نوبات بكاء ونواح مصحوبة بشهقات وكلمات تكبير وحمد وشكر لله وتسابيح لم أسمع بمثلها من قبل..

خرجت اسحل بحقيبتي الثقيلة من بوابة صالة المطار لأغطس بليل بغداد المديد الملبد بالمفاجآت والرعب وفنطازيات الرعب بعد أن تخلصت بشق الأنفس من المساءلات الكثيرة وإجراءات الدخول المملة وما تخللها من شك بعراقيتي لأن لهجتي بدت لموظف كاونتر الدخول الرجل الذي بدا لي ريفيا وخمنت أنه من متوسطي التعليم في أغلب الظن بعد أن عجز عن قراءة أسمي وتاريخ ميلادي المكتوبان بلغة لاتينية رأى الرجل اختلافا وغرابة في لهجتي وظن أنني سوري رغم أني تكلمت معه بلهجتي البغدادية المعروفة لكن الكلام بدا له ملتبسا رغم أن أسمي العائلي ومكان وتاريخ ميلادي المسجلان بلغة أجنبية ويدلان بشكل لا يقبل اللبس على عراقيتي ونسبي ..

استعان ذلك الموظف بموظف آخر لمساعدته على قراءة الاسم ومكان وتاريخ الميلاد..

لا يهم قلت:

طالما أني أسير فوق أرض بغداد رجعت سالما من الناحية الجسدية لمسقط القلب بعد أشواط الضياع الطويلة التي قضيتها متنقلا في أقامتي ما بين باريس وبروكسيل عدت لبلدي كما يعود السندباد من مغامراته البحرية الخطيرة ورحلاته الطويلة..

عدت دون أن أجني شيئا سوى الألم وفقدان الصواب وفقدان الهوية ما أنا بالله علي

أيحق لي أن أسأل نفسي وأحاسبها عما فعلت؟ أيجوز ذلك لأبله خرتيت قضى نصف عمره يركض وراء الأوهام والشطط

ربما عدت لأسترجع حقوقا مسلوبة أو أني جئت لأسترد دينا في ذمة هذه البلاد وأناسها الذين لا لغة لهم كما عبرت عن ذلك امرأة بلجيكية مسنة قالت:

هل صحيح أن العراقيون حيوانات لا لغة لهم لذلك ليس بوسعهم النطق إلا عبر طلقات الرصاص)

جئت جائعا لبلاد الشر والبلاء ربما كنت أصبوا إلى رد اعتباري أو جئت باحثا عن تعويضا يدفعه لي معشر الدموعيين وهواة الأغاني الباكية وجموع اللاطمين والرواديد الكربلاءيين حللت بمحض أرادتي بين منازل العواء والصراخ الدائم رجعت يا شامخ لفكي الوطن المنتكح كديك حن لوسخ المزابل تقت لنعيق البوم ونغيط الغربان الكئيبة ها أنا أمشي بين حطام الحروب التي أحرقت البلاد وأحالتها إلى خراب وأنين وألم امشي وحيدا تحت سماء الشر والوسخ التي جئتها بمحض أرادتي بعد أن ضقت ذرعا بغربتي وترحلي وشتاتي الطويل الذي عده الأهل والمعارف نهاية حتمية لا رجعة منها أتخبط الآن بين بحر من الخراب يصلني صوت النواح المهرهر والولولات الموجعة ويبلغ مسامعي بشكل جارح الأنين الأمومي والثغيب وهمهمات الخوف من الآتي وأنا أتجول فوق شوارع صانعي الكدر والهم والدموع والفظائع والزبل اجر بخطاي وبخيبتي التاريخية على تراب الوطن المكسس ربما عدت لأقلب في دفاتري العتيگة مثلما يعود تاجر من التجار الخائبين لدفاتره القديمة تاجرا أفلست تجارته وخسرت دكاكينه فضاق ذرعا بالإخفاقات وبأبواب الرزق الموصدة فلم يجد من بد من العودة لمراجعة حساباته القديمة التي أكل الزمن عليها وشرب وأخذ يفتش في حساباته القديمة لعله يعثر فيها على ديونا منسية الدفع أو أنه يفتش في الشوارع عن رعاع ومطايا وقحاب ربما عاشرهن في يوم ما ويبحث عن ماض ربما يكون ماضيا منسيا للكثيرين وآخر غير منسي يريد استعادته واستحضاره عدت لمنزل الأقنان لنفس الحوش الذي ولدت قريبا منه وترعرعت بين حوائطه وتحت سقفه بين أولاد أمك الأول ألقاك خضك الغادر وقدرك اللعين بينهم نزلت عليهم نزول الصاعقة الهوجاء التي تضرب بكل قوتها كوما من الريش فتطاير جميعه في الهواء بيتا متداعيا ومهلهلا تضربه الريح العاتية من كافة جوانبه بيت لم يكن يحتاج إلا لدفقة من الهواء حتى يطيح ويتكوم فوق بعضه ويتحول إلى ركام..

وأنزلني حضي بينهم مثل عدو يجلبه حظه العاثر بين أعدائه, حطيت بينهم مثل ما يحط الفأر بين جمع من القطط المتوحشة في ساعة تخمتها فوجدت بك سلوتها ولهوها المعذب..



صرت أشاهد أصابع ولدي كيف تتنقل بين الأوتار وتداعبها بحنو فتنبعث الألحان التي تطرب أناي

فبدءوا يداعبونك بالمرارات ويلقنونك ألوان من العذاب والاهانات وبدأت لعبة مقدراتك العجيبة التي دفعتك بينهم حياتك التي كنت تنتقل فيها من فشل لفشل آخر علموك خلالها معنى أن تكون مرفوضا وأن تتجرع الإهانات والذل وتسكت

وصرخت مرة بعد أن ألقى بك أخيك من منتصف السلم الحجري إلى الأرض فأنفرش جسدك الطري على البلاط الصلب

فصرخ وهو يرعد غضبا ..

ـ تسكت لو أجي أخصيك..؟

علموني الحقد والخوف والرعب في ذلك البيت الذي كان يرشح بالكراهية بدأت كيف أقف على قدمي على وأخطو خطوة وخطوتين وأنچبح في هذه الزاوية من الدار حين صرخ بي أخي لأمي بصوته الحميري المرعب صرخة أنزلت مائي المالح وأسالته على ساقي خر من موزة لحمي وغمر ركبتاي ونزل الماء المالح على الأرض فخف غضبه وتوقف عن ضربك وفرحت لأنك نجوت من بين يدي جلاد قاس لا يرحم



تبولت من الذعر فحماني ماء بولي الذي ساح على ساقي ساخنا فرد عني العدوان وخلصني من بين يدي أخي الذي تحول في ثوان إلى وحش كاسر لا يرحم صفعني بيده الغليظة صفعة فقدت السمع بسببها والتفت ناحية أمي صارخا بعد أن أغمي علي مثل ضبع جريح يريد افتراس جارحه وقال وهو يغلي بغضب بركاني بعد أن رماني من بعيد في حجرها

ـ خذي زبالتك وأخرجي من بيت أبينا..

ـ هذا أخوك يمة.. ردت بصوتها الباكي المسترقق

ـ هذا أبنك وليس أخي..

لملمت أمي أشياؤها وحملتني على ذراعها بعد أن ربطت صرة قماش بيضاء صغيرة رزمت فيها ثيابي وثيابها وأخذتني ومضت خارجة من الدار ,احتضننا هواء الشارع ومضينا معا نسير في بحر المدينة الواسع مطرودين كنت على كتفها حين دخلت إلى بيت واحدة من معارفها مدتني على الأرض

تبولت على ساقيك التي قادتك من فشل لفشل تنفس بعمق تمطى تثاءب ودع لصوتك أن يلعلع بين ثنايا البيت بعد أن لازمك الصمت والسقم لسنوات وسنوات

طفولتك الممزقة زمنك المتهرئ حياتك التي سارت في أول خطوتها على مؤخرتها وتكسحت أيام شبابك ومضيت كمشلول تسحل بنفسك في وحل هذه الحياة طفل غض بين أعداء يسمونهم أخوة بشوارب كثة وأيد ضخمة وأصابع غليظة تنطبع على وجهك الطفولي



















كنت قد قمت بلعب الأدوار غطست في الوحل ونمت بين النفايات وأكوام الزبل تعرفت على ألوان لا تحصى من الإذلال وتلقيت كيلا من الإهانات والأحتقارات التي لا تحتملها أعصاب حمار حتى أني صرت في أوقات السخرية من ذاتي أمشي بخطى استعلائية وأهمس لنفسي ضاحكا سر هكذا على منوال المشية البرجوازية طالما أنك بارعا في حياة الفشل ومتفوقا بحمل شهادات النكوص والخزي والعار والشنار أدركت معنى أن تكون منحطا وسافلا مثليا يعتاش على فحولته على ما يجنيه من مجتمع اللواط كل قواميس الشتائم والسباب لا تكفي لغسلي لا تكفي لتطهير ملي واحد من جسدي الانحطاط والسفالة وخبرت فصول تلك الحياة كيف ينداس المرء ولا تشفع له كل كلمات الخنوع والرجاء قمت خلال رحلتي هذه بنسج القصص التي لا أساس لها كذبت ودجلت وسخت وتوسخت جعت وتشردت في البلاد الغريبة انكفأت هائما على وجهي في الشوارع الخالية إلا من البرد الذي ابرم حلفا مع الجوع والكدر ضدي كنت أحس بدودة أرضة تنخر في عظامي وتقتات على بدني نمت بسد محطات القطارات وتسكعت في الشوارع والطرقات باحثا عن ملاذ يصد غائلة وحش الجوع دورت عن فراش دافئ أتمدد عليه ولو لليلة تعيد إلى أطرافي المتجمدة الدفء وبعد أن فشلت بالعثور على ما يجعلني أشعر بأني ما زلت حيا ولم أمت بعد

أدخلني القساوسة إلى كنائسهم أطعموني وآووني في بيوتهم بعد أن طردني ربابنة المساجد فدخلت لدينهم طمعا بنسائهم لا رغبة ولا أيمانا بما جاء به عيسى أبن مريم من تعاليم ومثلما كنت تقول لندمائك في المايخانات الوضيعة صدقوني أني لم أدخل لدينهم إلا من أجل أن أصطاد نسائهم من أجل أن أذوق اللحم البض وأداعب بيدي الشعر الأشقر والعيون الخضر كنت تصطاد بحزنك الجذاب الذي يستميل قلوب النساء العطوفات النسوة المكتنزات اللدنات الأجساد المتعودة على الكريمات المطرية التي تشد الجلد وتنعمه وتملسه وتشطفه من الدهون ومن الشحوم اشترطوا علي أن يشطفونني بحوض مياه دافئ حتى يقبل دخولي دينهم الطهور أو أفضل خارجا بوسخي و[أحقادي القديمة أنزلني رجلان لحوض الماء الدافئ أحدهم أسمه ميخا الناسك ذكرني بعد أن كشف غطاء الحوض ببالوعة السبتتنك التي كان ينزحها لنا ميخا الوسخ الذي كنا نسميه ميخا أبو الخراء كلب المجاري ترددت في بادئ الأمر ثم فكرت بأن أمانع فجاءني رجلين مسلحين بالرياء والعظة وكره الإسلام كنت توصم كل منهم بحامل دكتوراء بالرياء فأنزلوك للقاع فقلت أني لا أريد أن أغطس في الخراء فقال الباستور تطهر يا ولدي تطهر من وسخك ومن عوالق دينك وأخلص لأبن مريم فأنا مسحناك بمسوحه وغسلناك بمائه وسقيناك من نبيذه الخالد وسنطعمك كسرة من خبزه لوكها وعش الحياة بقلب صاف بعد أن كنت ضالا تعيش وأنت تدفن البغض بين عظام صدرك وعلى تعاليم الشيطان لك الجنة قال الأب قبل أن يدفعك برفق بأن صافح أهل دينك الجدد سرت بين جمع من الهاتفين وبدءوا يقبلونك وهم يقدمون أليك التهاني ويباركون لك الجنة والتخلص من الشيطان وكل ما باستك فتاة حلوة قلت هذه أجمل من تلك وتلك أحلى من ذيك وخرجت من بين هؤلاء محملا بالعار مثل ضبع جرحه أرنب





ارجع سماعة الهاتف وطالع ما كانت تبثه الكاميرا من صور لحيوانات تمر ببطء بطريقة السلموشنك فتتجمد الصورة ثم ترتخي حتى ثبتت على منظر ضفدعة ضعيفة الحركة تجرجر خطاها بتراخ وئيد وترفس في مشيتها كأنها تنثر لحما متفسخا فيغدوا شكلها اللاهث الموشى بكل ألوان الاخضرار والترهل مقززا

التي تساهم بصد العيون بعد كل حركة ووثبة من وثباتها الوسخة وهي تشحذ قواها بلهفة رعناء صوب الوحل للتتمرغ بالوحل وبالمياه الراكدة وتدهن جسدها بزيت الطحالب الطافية على وجه ماء أحدى البرك كانت تمخر في تجوالها مثل باخرة محطمة شارفت على الغرق لكنها ظلت تقارع ليونة الطين ومادته الصمغية اللزجة بغلواء حيوانية وتجتهد لتخليص نصفها الغاطس وهي تجتر أنفاسها بعسر بالغ متلمظة أثناء تربصها بحشرة رخوية تترقب غفلتها بنظرة معدنية وبطنها المتهدلة مثل فقاعة متخثرة وخفقات خيط زردومها المتحفز لالتهام أي حشرة تقع ضحية بين فكيها من بين سائر الحشرات التي تمكث في البرك

الآسنة التي تحوم فوقها بعض الفراشات التي اجتذبتها أضواء الديدان الفسفورية العائمة واليرقات الجاثمة وظهور أبو عرس المفاجئ من الأدغال وما يثيره من ريبة وذعر بين الحشرات والزواحف التي تعرف غدره وانقضاضاته المفاجئة التي لا ترحم

ـ أنت أكيد أنك ما زلتي تتذكرين ما حصل لي على أيدي أولئك المستهترون من ضرب مبرح و تنكيل وإهانات

ـ أذكر تماما أن ذلك البغل كيف تجرأ وضربك بكف يده على فمك ضربة كومت صف أسنانك الأعلى في فمك













ـ أمازلت مولع بالبياتي كالسابق؟

ـ للأسف لا لقد اضمحل شعره بالنسبة لذائقتي شيئا فشيئا الآن أحب عدنان عادل وشاعرة بلجيكية لم تزل شابة اسمها ايفا سوكس أما ما بقي عالقا في ذاكرتي وأحن أليه بين آونة وأخرى بعض من قصائد السياب وحسب الشيخ جعفر وشاعر غنائي كثيرا ماكنت أسمع الأغاني التي كتبها لمختلف المطربين أسمه زامل سعيد فتاح أعتقد أنه متوفى وشاعرين من شعراء عصر النهضة

ـ من هما؟

ـ رامبو ولوتريامون







الفصل الرابع



عدت بعد أن اجتزت المدن والبلدان وطفت بين أرض الله ما شاء لي الطواف حللت في المدينة التي حل بها اللقطاء وأولاد الزنا

جئت لأر الملايط بعد أن خلفت ورائي الوطر الأجمل من عمري الذي بددته بحياة البهدلة السنين التي يمكن للمرء أن يحياها بعافية وصحة تامة أضعتها في الترحل, عشت الحيوات كلها عشتها في العرض وفي الطول تنقلت من حياة كان فيها شيء من العز إلى حياة التسول رأيت كل صنوف الذل والشحتلة في كل ساعة كان لي حدث وفي كل ليلة كان لي مطرح ورصيف أتوسده وأنام نوما هلعا قد لا أستيقظ منه قصص لا تنتهي مع برد الشوارع وتضور البطن الخاوية العظام التي تصر صرير الأبواب وتطرطق على بلاط الأرصفة حينها عرفت الطاقة التي يمكن لبدن الإنسان أن يحتملها,تلك الحمولة من الانتهاكات والركل وكيف تتحول اليد المصافحة إلى يد تشهر مدية بوجه الأبرياء, نزعت حقيبة امرأة من كتفها كانت تسير بجانبي على الطريق ولذت بالفرار في إحدى الأزقة المظلمة وتركتها تصرخ كنت جائعا وكل ما يمكن له أن يقف حائلا أمام سد غائلة جوعي كنت سأطعنه دون أن يرف لي رمش لكني ولحسن الحظ لم ألاقي منها أية مقاومة سلمتني حقيبتها كنعجة وظلت تندب

في مدة وجيزة تحولت إلى ذئب ضاري أكل لحم الخنازير والصراصير والفئران والكلاب مع الفلبينيين ..كان طيشي

وولعي بالخمر والسكر قد أعانني على طي الصدمات ولف الكثير من البلاوي تحت أبطي كنت أجترع كؤوس الخمر وأزدرد السأم لكم كنت أحتقر أطراف الحقائق التي كان يجاهر بها العقلاء والموضوعيون وأنا جائع كان نعلي يدوس على القناعات ويسحقها سحقا كنت أشرب كميات من الكحول تفوق طاقة بغل كي أخدع نفسي لعل المشاهد تتبدل وتفرغ من جديتها كنت أترجى الطمأنينة من وراء الخدر الزهد الكحولي الذي كان يجود علي بهنيهة من الاسترخاء

وأواصل الجري في ساحة لعبي وازدرائي للمخلوقات التي توزع النصح والعظات والأخلاقيات الرعناء لم تستطع أن تبدل النصائح من قناعاتي ولم تهز شعرة من ذيلي أحابيل الرياء من يوطي الرأس لتلك المسوخ لم يكن ليفرق بكثير عن حيوان من الحيوانات التي تتصف بقلة الإدراك لتلك الأخلاقيات الجوفاء آه يا طيشي اللطيف الرائع يا تاجي ربما يحق لي أن أسأل عن معنى الرفعة طالما كنت على الدوام وحيدا بلا سرب أو أتباع أيعني ذلك أنني سافل وسكير عديم النفع والفائدة ألآني لوطي صنيعة الشوارع أعامل على أني كلب أجرب ألا توجد مصحات لشطف مؤخرات هؤلاء وتخليصها من السوائل اللزجة ألا يوجد أناسا بلغوا الخسة وهم يؤلهون من قبل القطيع الأعظم أليس المال يصنع الوجاهة في دنيا الجائعين ما هي الخسة إذن وما كنه الرذيلة في عرف الأتقياء لم بحق نبي اليهود الذي بنى هيكله على الولائم تسرفون بالبذاءات

تحللون الدم وتكبحون الرغبة, أليس نيل المتع طيش سام ووئدها فعل غاشم لكن من له أذني حمار يسمع بهما الحقائق ويغير الأشياء من حولي فلم يكن لدي أي خوف من أن حياتي ستكون قصيرة الأمد ليس المهم أن تعيش طويلا كان هذا مبدئي ومازال ,ما هو مهم بالنسبة لي هو كيف سأعيش الحياة التي حتما ستدير لي ظهرها وتركلني على مؤخرتي كنت أتحسب لهذه الركلة وحتى أستسلم دون ما مقاومة لحبل النهاية كان ينبغي علي أن أخذ كفايتي من صنائعها وموجوداتها الكثيرة كانوا يقولون عني غريب الأطوار ولا يعرفون أني عراقي

لا يدرون عنا أنا أناس غريبي الأطوار لا يدرون أننا نبني اليوم ونهدم غدا شعب رهن الهدم والتخريب يجب أن تسجل هذه الامتياز باسمنا نحن في الموسوعات العالمية والإنسكلوبيديات

من قال أن من يرتكب الرذائل رذيلا أليست النفس أمارة بالسوء, وأي نفس لا تأتمر بالسوء لرغائبها ؟! أي إنسان لا يخدع نفسه إن لم يكن في الصحو ففي الأحلام يستمني الناس مع الأقربون





ـ لماذا لم تحاولي مغادرة البلد عند اشتداد موجة العنف خصوصا وحسب معلوماتي السابقة أن الحالة المادية لا بأس بها فما هو المانع الذي حال دون تحقيق ذلك

ـ من حيث الظاهر كان باستطاعتي أن أفعل ذلك ولدي الإمكانية المادية للوصول لأي بلد أوربي وطلب اللجوء فيه لكن ما حال بيني وبين القيام بذلك هو وجود هؤلاء الأعزاء الذين دفنتهم في تراب هذا الوطن بمعنى آخر لم أقدر على الانسلاخ من تاريخي الشخصي من البيت الذي تربيت فيه ومن الكرادة مسقط رأسي التي تعتبر قلب بغداد العصري ذكريات صباي وزوجي الذي لم أعد اعرف عنه شيئا عن صور أبي وأمي وأخي عن روائحهم التي مازلت أشمها في أنسجة ثيابهم المعلقة في خزانات ملابسهم كان من العسير علي تصفية ذلك كله والهرب إلى بلدان اللجوء مع احتمالات الفشل ناهيك عن الألسن العراقية البتارة التي تملك وجهة نظر واحدة لا ثاني لها للمرأة التي تسافر بمفردها ..

ـ هذا صحيح هم هكذا دائما يدورون في هذا الفلك





الصفعات على الوجه









يتمهل يتوقف يفكر ويستأنف تساؤلاته

تنفتق معدته

لم أضرط ضرطة أو أر أحضر لتشيع جنازة إلا وانحشرت في رأسي صور حادثة حسن تيس

لا أدري ما الذي يقف وراء انحشار صور حادثة حسن تيس سبب كلما دخلت مأتما انحشرت في صور حادثة لي صورة حسن تيس

ومن هؤلاء ذلك الرجل الذي قضى نحبه مع أنه أكل حسن حتى أعمته التخمة وغشاه الغثيان

قبل دقائق سألت أختي عن أحد الذين ماتوا موتا طبيعيا وعن من قضوا نحبهم غدرا برصاص ومفخخات أخوة الوطن الواحد ومن جملة هؤلاء كان لنا جار تاريخي له حكاية لا يمكن أن تنسى حكاية ظل يتندر بها من حضر الواقعة ومن لم يكن حاضرا عن جار لنا يبدو أنه قد غادر هذه الحياة حسن, فحسن هذا كان يشتغل كناسا ومهنة الكناسة حسب عرف معظم العراقيين من أكثر الحرف احتقارا لا تجلب لصاحبها ولأسرته غير الأنتقاص والذل وعدم الاحترام من قبل سائر الناس ومن ينتسب لمهنة الكناسة لن يتلقى من سائر طبقات المجتمع غير الإذلال والاحتقار والتنكيل ويواجه الاستهزاء حتى من أفراد أسرته ويسقط اسمه من عداد القبيلة ويصبح عدوا منبوذا من قبل مختلف قطاعات المجتمع أثر امتهانه لذلك العمل ويصبح مقياسا للعار وحكاية من حكايات الاستهزاء الفريدة التي تضرب بها الأمثلة للتندر والاستخفاف ولا تقبل به أي من القبائل العراقية المعتبرة رغم أن هذا الرجل يكدح طيلة ساعات عمله لأجل الصالح العام والمجتمع ومنها يتكسب رزقه فما الضير من ذلك طالما أن الرجل يعيش من عرق جبينه وشقاء بدنه

كان المسكين يعود منهك البدن بعد ساعات عمله الطويلة بعد رحلته التنظيفية اليومية وزوجته لا تقدم له ما يكفي من الطعام ليعب به معدته ويسد غائلة جوعه اليومي فيتحرك الرجل في سعيه الدائب لزيارة الأصحاب والمعارف وبعض الجيران ممن يجد بغيته المعلومة لديهم سعيا منه لتناول شيئا من بقايا طعام باءت أو طازج فعلم الناس بغيته وخبروا مآربه وأهدافه من وراء تلك الزيارات الليلية المحسوبة التوقيت حتى كأنه كان يشم بحاسته أوقات صب الأطعمة فاستسلموا للأمر الواقع من كان يخصهم بتلك الزيارات المسائية أمرهم لله بعد أن تحول الرجل إلى كابوس يومي مبرمج ومعد للإجهاز على الأطعمة صاروا يطعمونه من طعامهم ويسقونه من شرابهم فاستطاب له المقام فدأب وواظب على زيارة هذه العائلة أو تلك من سكنة المحلة الذين وجد منهم شيئا من الترحيب وسعة الصدر وفي يوم من الأيام كان قد توفي أحد وجهاء المحلة فنصب ذويه ثلاثة من سراداق العزاء واحدا أطول من الآخر تم نصبها ليجلس تحت ظلها حشود المعزين الذين جرت العادة أن لا يبارحوا المكان إلا بعد أن يتناولوا طعامهم ويشربوا قهوتهم اليمانية المركزة على جرعات صغيرة فلم يبالي صاحبنا بمعدته وأنهمك بالتهام الثريد واللحم والرز أصناف الأطعمة مع طاسات الماء البارد التي كان يكترع منها بين الحين والآخر لتساعده على ما لا طاقة لمعدته بهضمه فأكل الرجل حتى انتفخت بطنه وتزيرت معدته من جراء كثرة الأكل وشرب الماء فضاق به الحال وقل أمامه السبيل وخرج زمام الأمور عن نطاق السيطرة بعد أن شعر بعاصفة هوائية تزوبع في حومة كرشه حتى كأن معدته ستنفتق ويتطاير ما في داخلها من طعام رص رصا محكما أن لم يتصرف على عجل ويتخلص من ما لديه من كمية هواء وغازات أخذت تتنامى وتزداد حجما واضطرابا ثانية بعد أخرى حتى كادت أن تنفتق لو لم يستسلم في نهاية الأمر ويذعن لإرخاء العنان لحبال بطنه التي شد حلقها للحظات بالضغط والشفط وربطت حلق تلك العاصفة الرعدية المزوبعة فتخلص الرجل مما كان يشعر به من عناء وضغط فضرط بعد أن ضاق به الحال ضرطته الشهيرة تلك التي دوت في أرجاء الديوان وقام بترقيتها بعض المنكتين والمتندرين إلى مستوى تيس حسب القوة الصوتية التي كانت عليها تلك الضرطة الخالدة الذكر حسب ما تم تصنيفها عراقيا فصفق صوته كالطبل جاء على شكل طرررررررطططططررررررططط منفلتا انفلات الأرعن صاما بصوته الرنان أذان من كانوا حاضرين فتبادلت صفوف المعزين النظرات المليئة بالاستهجان والحنحنات والسخرية وسرى الهمس بين بعض المعزين ممن تمالكوا أعصابهم في أول الأمر واحتبسوا ضحكهم , على النقيض من الآخرين الذين تبسم البعض منهم وغص البعض الآخر غصات متلاحقة وغارق في بنوبة ضحك الموحية صاخبة قلبت المأتم إلى مسرح للهزل والتسلية وكأن الميت كان ينتظر الرجل يضرط ليفقد أهميته ويتحول الحزن عليه لمهزلة ويتحول تاريخ موته لوصمة ارتبطت تلقائيا بضرطة حسن التي جعلت كنيته تيسا وحين حدث ما حدث وبعد أن تأزم الموقف وأصبح عاما ومخزيا بالنسبة لفعلة الرجل أجبر على أثرها بعض من ذوي الفقيد دون أرادتهم على الضحك فتعاظمت الفضيحة وتبرقع الرجل رغما عنه بثوب الخزي والإحراج بعد أن تحول المأتم إلى مهرجان سادت فيه هستيرية الهرج والمرج بعد تلك النوبات من القهقهات والضحك فلم يتبقى أمام ذلك السيد سوى من خيار سوى أن يلوذ بالفرار بأسرع ما يمكن ودون أي تأخير تحمل تلك الفشلة وترك مجلس الفاتحة والهرب بأقل خسائر فغادر الفاتحة مطأطئا رأسه ومتسللا إلى الخارج بعد أن فلت الأمر من كان يسبح بها وقطع قراءة القرآن من كان يقرأه فصار موقف حسن مخزيا ولا يمكن تغطية الفضيحة والتستر عليها فأراد تلافي الموقف والتخلص منه بشتى الوسائل بعد أن أطلق تريوعة عبرت عن ما أحس به من شبع وتخمة لم تحظى بانتباه أحد ولم تفلح بتخفيف عبئ الواقعة وحين ضاقت به الحيل ملص حسن من بين ثنايا السرداق الجانبية ملصة الهارب الذي لم يبقى من مفر أمامه فزودوه الجماعة على الفور بكنية تيس فصار أسمه حسن تيس واخذو يتنحنحون ويتغامزون



عرفت السأم عرفته كيف يأكل البدن ويلوك البهجة التي تلوح من بعيد

وعرفت الحب كيف يمزق ثيابه مع مرور الأيام



صمغية التراب اللقطاء

حين تحسد الاستونيون الذين يثورون بالغناء بصوت واحد ارى



كان الأحرى برامبو أن يخصنا بفصل آخر من جحيمه وعلى دانتي أن يكون أكثر اشتمالا في جحيمه حجي زبالة في شارع الرشيد قرب حسن عجمي اورزدي باك في الكرادة دمر بعد التغيير لا اريد ان اطنب في هذا المجال

تاكلان الايس كريم امام واجهة احدى المرطبات هذه المدينة التي تحولت بويتاتها الى اقبية لم يتجشأ



كان مجموعة من السكارى يصرخون في عرض الطريق

تعيش مؤخرة جنيفر لوبيز

فتفاعلت معهم وقلت:

ـ يعيش صدرها.. وأجابوني

ـ وخصرها..

ـ وساقيها بيضة آدم

تعيش صرت أنظر للعرب حين اجدهم في الطريق واقلب وجهي بعد أن أجمع كل ما بفمي من لعاب وابصق وأقول باحتقار زبالة أين ما وليت وجهي أجدها أمامي

تعيش





أقرأ قاموس الشتائم









رن عليها الهاتف فرفعت السماعة

ـ لم تتأخر هذه المرة؟ قالت

ـ ربما لن أتأخر ثانية ؟قال

ـ صحيح..؟قالت.. قال متحمسا

ـ ربما هذا الحرص على التوقيت نابع بسبب ما فاتني من أشياء كان يجب أن لا تفوتني لأن الأشياء التي تفوتنا لا تدعنا نهنأ بفواتها مهما كان نوع البدائل وشكل المبررات لذلك تظل الخواطر حزازاتها تحز في الروح وفي النفس وحتى البدن, والتملص كما هو معروف لدى الكثيرين دائما ما يعد في العرف نذالة وخسة وإدراك ذلك بعد فوات الأوان يعد بمثابة ندم فاضح وشعور تام بالخيبة, خيبة لا يمكن لاعتراف متجرد من أية غاية خاسئة أن يكفر عن آثام لا يدرك المرء فداحتها بالنسبة للآخر البعيد وهو مأخوذا بزحمة الأحداث الحياتية التي تجعله لا يرى سعة العالم إلا من خرم إبرة من خلال العمى التام يتصور الأشياء ويتعامل معها على أساس ذلك التصور

فما نفع

الصراحة وما نفع الكشف عن بذاءاتها الباطنية وذرائبها ... ثم هل من الممكن أن تعوض الصراحة المتناهية والاعتذار الجم قتيلا في الحياة؟

افتراضا ربما يماثل افتراضات الحمقى لكنه في الواقع معبر تماما عما أريد التعبير عنه والإشارة أليه أعرف أن كل ما يمكن أن يقدمه الطاعن للمطعون من تضرعات لا يعادل قيراطا من ما يشعر به الآخر من ألم وحيف



تداخل يثير حتى المتكلم بالفزع جناة وجنايات الواحد منا في هذه الحياة يظن نفسه ملاكا وهو لا يدر أنه يرتكب الفظائع بحق الآخرين أليست هذه حسب قوانين الضمير جنايات

ثم من قال أن القتل هو حصرا على أطلاق الرصاص واستعمال السكاكين والخناجر بدم بارد, وهل يتطهر الملوث من رأسه حتى قدميه بالقاذورات والنجاسات المقززة بمجرد الجلوس في دير أو كنيسة وكشف الحقائق ؟

هل من أحد هنا يغفر له تلك الحمولة من النتانة ويقبل بشمها يوميا رغم أن صاحبها في كل صباح يأخذ حماما ساخنا ويغتسل بعطور الصابون,

أهناك من يتغاضى عن الزلات والإخفاقات التي لا تغتفر ويغض الطرف عن التحولات الصعبة التي يعد مرتكبها خارج العرف والناموس

هل من أحد في عراقنا هذا المشرع الأبواب على كل الزوابع والاحتمالات أن يعد على سبيل المثال تبديل الجنس والدين وتغيير الاسم شأن شخصي هل الميل في المشاعر صوب ضرب من الرغبات غير المألوفة لا يعد انحرافا وعارا

إلا يجلب الاعتراف لصاحبه الشتائم والتشنيع ويسف له الفضائح تلو الفضائح

ـ أنت تتكلم بلغة غامضة عن الحريات... والحريات في العراق والشرق عموما لا مجال لتحقيقها حتى لو تبدلت النظم وتغيرت الدساتير من يستطيع أن يغير ما شب عليه صنف من البشر وما تربت عليه أبدانهم من رواسب الماضي هل يتحول الأب الذي لا يسمح لأبنته بالسفر لمدينة أخرى من دون محرم أن يدعها تمارس حريتها كانسان ؟...



ـ أنا تكلمت عما يمكن أن يحدث للناس من تبدلات في الخواطر والأهواء وما يمكن أن يلحق بهم من تقريضات وعار من جراء ذلك

تعرفين...تمهل وهو يمرر أصابع يده بين خصلات شعره ثم فكر قليلا وأستأنف

ـ لأضرب لك مثالا ربما قريبا من ذلك...

في مرة من المرات أوقف رجلا , رجلا آخر في عرض الطريق وسأله سؤالا مباشرا وواضحا عن الأشياء الصحيحة التي ينبغي على المرء أن لا يحيد عن أتباعها في دنياه

فرد الرجل بكل ود ولباقة:

((الأخلاق)) رغم أنه يعرف تماما أنه يعيش في عالم لا أخلاقي ثم زاد على ذلك:

الأمانة والصدق.. وعندما

سأله السائل فيما أذا كان يتبعهما قال:

ـ أنا؟ أكد الآخر (بنعم).. قال:

ـ بتاتا.. استحالة...لا يمكن تطبيق ذلك, العيش على هذا المنوال يتطلب زهد حقيقي بالرغبات وأنا رجل دنيوي مئة بالمائة والدنيويات يراد لها حيلا وأساليب

بهذا الصدق الفطري الذي كان يتمتع به ذلك الرجل أيقنت من أن لا يوجد صح أو خطأ في هذا الكون مفاهيم ومثل خارجة عن الإطار والسياقات العملية

ـ هل مازلت تتذكر كيف كانت حياتك قبل سفرك؟.. قالت على نحو مفاجئ:

ـ أتذكر تماما, كانت أجمل أيام عمري..

ـ لكم تغيرت يا شامخ؟.. قالتها وهي تحت ضغط اللم..

ـ كلنا نتغير..

ـ الناس يتغيرون باستمرار..

ـ هذه طبيعة الحياة..

ـ نعم..

ـ كلنا نتغير

ـ ربما..

ـ لا يوجد شيء لا يتغير فوق هذا الوجود..

ـ الأحاسيس الحلوة هل تتغير هي أيضا؟

ـ قد تخفت حلاوتها بمرور الزمن..

ـ بمرور الزمن..

ـ بمرور الزمن طبعا..وأرادت أن تعبر له عما كان يجيش في نفسها من مشاعر المرارة والحسرة لكن عارضا قد منعها فصمتت لعشر ثوان بعد أن أحست بشيء من الانفعال حتى عادت لتأخذ الحديث لجانب آخر..

ـ قل لي عن المنوال الذي كانت تجري عليه حياتك؟

ـ لم تكن تجري على منوال واحد كانت تجري على عدة منوالات..قال هذا مسايرا إياها بعد أن شعر بانفعالها

ـ لم أفهم..

ـ طيش, صخب,لا استقرار تشرد..

ـ يعني من هنا ومن هناك..

ـ بالضبط..

ـ حيث ما تكون المسائل تكون ها؟

ـ نعم مع الظروف..

ـ أكنت سعيدا وأنت تتقلب ما بين هذا وذاك؟.. سألته بلهجة جادة أكثر من سابقتها..

ـ لا السعادة في حياتي كانت دائما طيف عابر..

ـ أذن نحن متعادلان..

ـ في الربح أم في الخسارة؟

ـ في الاثنان معا في الربح وفي الخسارة وربما في الندم أيضا, سم هذه الأشياء كما شئت خصوصا أذا كان هناك من لديه الاستعداد لارتكاب عدد من الخطايا وتحمل عدد من الآثام..

ـ قبل ثوان تطرقت لهذه النقطة وقلت عما أذا كان يوجد من لديه القابلية والاستعداد على الغفران..هنا حاول أن يفلت من التلميحات ويرد عليها بلبس رداء الفضيلة والتدرع بلغة التسامح فتمكن بالفعل من التخفيف من حدتها وضغطها المتواصل فوقفت كلماته تلك حائلا حيال تطور الأمر بعد الأخذ والرد الذي كان يجري بخطى حثيثة صوب مجابهة مبطنة قد ينفجر شررها في العلن ويحرق بقايا المودة التي ما زالت تجمعهما معا..

ـ في بعض الحالات لا بد للنسيان أن يقوم بمهامه الضرورية..قالت ملينة لهجتها بعض الشيء,فأسترد أنفاسه صاحبنا وقال:

ـ الغفران هو أكثر الخيارات نبلا, هذا ما تعلمته بالفعل من العاطفة المسيحية..

ـ تعرف أو لا تعرف قلب المرأة هو الأكثر تقبلا لترجيح العاطفة..

ـ أعرف ذلك وأقدره في المرأة.. ويعد هذا فعلا كافيا لأخلاء السبيل لمن لا حول ولا قوة له.. استراحا قليلا بعد إبرام هذه الهدنة المؤقتة حتى أنهما صمتا بعدها أكثر من اللازم..

ـ لم تخبرني عن بشيء عن زوجتك البلجيكية..قالت مغيرة زاوية الموضوع لمائة وثمانين درجة فأستحسن منها ذلك قبل أن يتشجع لمواصلة هذا الشوط من الحوار..

ـ كانت امرأة ككل النساء..

ـ ألا تختلف بشيء عن العراقيات؟

ـ ربما بالمظهر وألوان الشعر والعيون ولون البشرة لا أكثر..

ـ واللغة؟

ـ واللغة بالطبع..

ـ هل كونت علاقات حميمة مع أناس تلك البلاد؟

ـ مع الرجال أم النساء بالتحديد؟

ـ مع الجنسين..

ـ كونت بعض الصداقات الطفيفة التي اتصفت بالحميمية, بالمفهوم الغربي للكلمة..

ـ ألهم مفهوما معينا لحميمية الصداقة بين الرجال عداها عن النساء أم أن في الأمر طوية أخرى أجهلها..استوضحته عن اللبس في هذا الأمر فرد بالنفي ..

ـ لا,لا تداخل المسألة بسبب نوع الحريات والانفتاح كما تعرفين لأن العلاقة بين رجل ورجلا آخر تنطوي على الكثير من دواعي الشك والريبة..

ـ هل الأمر ملتبس لهذه الدرجة بحيث يصعب التمييز؟..

ـ لا ليست لهذه الدرجة لكن تبقى العلاقات ما بين الرجال خارج أطر التعارف العائلي الوثيق مشكوكا في حيثياتها..

ـ عادات..

ـ نعم عادات..

ـ والعراقيين؟

ـ العراقيون هم العراقيين حيث ما كانوا هم حريصون دائما على نقل خلافاتهم وعشائرياتهم في كل بقعة من العالم يتواجدون بها ففي بروكسيل نصبوا خيامهم وبدءوا بحد سيوفهم وباشروا بمشاحناتهم وحروبهم القبلية كانت الشرطة البلجيكية المعروفة بالصرامة تقف في الكثير من المرات عاجزة عن فض بعض المعارك التي تدوم لساعات ولا تنتهي إلا بحصيلة من الجرحى فتنشب العداوات والضغائن وأعمال الثأر ولا تتوقف هذه المشاكل حتى بعد أن يتم التفاصل فيما بينهم حسب الأعراف العشائرية..

ـ أصناف..

ـ بالضبط أصناف..أقول هذا وأعلم تمام العلم ما قاله ديساد عن الفضيلة التي لا تولد إلا من رحم الرذيلة..

ـ رغم كل شيء هم تجدين بصمتهم في كل مكان

كانت السماء تمطر أجاصا أبيض





حمى دالي قتلوه لانه مصاب بحمى دالي



جلس مع أخته وألتم حواليه ابنتيها وولدها بعد القبل والدموع والعتب على هذا الانقطاع والنسيان الذي كان خليقا به أن لا يتمادى لهذا الحد ويجعله خارج المعقول بهذه الدرجة من القسوة والفظاعة كان الأحرى به أن لا يدع خاصته من الأهل والأحبة نهبا لهذا الاحتمال أو ذاك وكلا الاحتمالين هو أمر أنكي من الآخر..

ـ قلت أنك تزوجت وطلقت..

ـ نعم..تزوجت وطلقت..

ـ وولديك كيف سيكون وضعهما في المستقبل؟

ـ لا أدري لكن في تلك البلاد لا مكان للأعراف العائلية والعادات العشائرية الكلمة الفصل للقانون والقانون مع المرأة في مثل حالة أولادي القصر فهم سيضلون مع أمهم حتى أن يبلغا الرشد وبعدها من يدري ربما بعد عشرة سنوات لن اعد أمثل شيئا مهما بالنسبة لهما..

ـ لكنهما يشبهانك.. قالت ساهرة وهي تطالع بصورتيهما..

ـ حقا؟

ـ العيون استدارة الوجه شمرة الحواجب سبحان الخالق الناطق..

ـ أي منهما أكثر شبها لي من الآخر؟.. قارنت ساهرة بين الصورتان ورفعت وجهها وقالت:

ـ أرى زياد هو الأكثر شبها لك..

ـ أنا أر العكس, لكن تخيلي حتى حركاتهم على مائدة الطعام وفي مزاحهم داخل المنزل سترونهم فيما بعد في فيلم فيديو جلبته معي..

ـ ماما أنا أشبه خالي أليس كذلك؟.. قال أحمد بعد أن غلت غيرته فاستجاب له شامخ مؤكدا..

ـ نعم حبيبي أبو شهاب, والله أنت تشبهني أكثر من زياد وسلام..

ـ نعم أمي دائما تقول ذلك..

ـ هي محقة.. في أي مرحلة أنت الآن؟

ـ في الخامس ابتدائي..

ـ ممتاز, وكيف هي درجاتك؟

ـ جيد في جميع المواد ما عدى الرياضيات ودرس اللغة العربية..

ـ في عمرك كنت أعاني من الرياضيات فقط..

ـ أنت أشكملت خالي؟

ـ في العراق أتممت الثانوية..

ـ أنا أريد أن أصبح طبيبا..

ـ أتمنى لك ذلك يا عزيزي..أجترع من أستكان الشاي جرعة خفيفة واستدار ناحية ساهرة وقال:

ـ بعد موت زوجك ماذا فعلت, أعني كيف تدبرت أمرك وتمكنت من أعالة أولادك هل اشتغلت أم ماذا؟

ـ اشتغلت في السوق وراتب التقاعد الذي أتقاضاه كل ثلاثة أشهر تمكنت من تمشية أموري..

ـ

ـ اشتغلت في السوق وراتب زوجي التقاعدي الذي كنت أستلمه كل ثلاثة أشهر فمن هنا ومن هناك تمكنت من تمشية أموري..

ـ وأخوتك ألم يعنك أحدهم بشيء

ـ الله هو المعين..

ـ والنعم بالله

ـ وماذا اشتغلت في السوق..

ـ بسطة, فتحت بسطة.. نظر أليها بألم ولم يجد ما يقوله فحول وجهه صوب البنتين وحاول أن يبش في وجهيهما..

ـ عبلة أنا تركتك وأنت كنت في لفة القماط فوجدتك حاملا..

ـ هذا حملي الثاني..

ـ والأول؟ ضحكت باستحياء وقالت

ـ شامخ.. ولدي البكر أسميناه على أسمك شامخ..

ـ أين هو الآن شموخي؟

ـ مع خالتي.. وبتكهن استباقي محسوس تدخلت أمها لتكمل الجواب:

ـ شامخ ترى عبلة زعلانة مع زوجها منذ خمسة أشهر أو أكثر والخلافات تبدو بلا حل

ـ لهذه الدرجة؟

ـ طبعا..

ـ لكن الخصام بين الأزواج يحدث باستمرار..

ـ صحيح بس هذا مو خصام ولا خلاف عادي, هذا ظلم..

ـ هذه الدنيا أين ما قلبت وجهك فيها لا تجدي شيئا أكثر من الظلم..

ـ صحيح بس ظلم عن ظلم يفرق كثيرا

ـ صحيح, لكن ماذا حدث بالضبط؟

ـ ما حصل أن أختي سجلت أبن عبلة باسمها عنوة فتخيل أم تجرد من وليدها..

ـ فضيلة.. چة, چة, چة.. معقولة لهذه الدرجة؟!...رد باستغراب ودهشة

ـ أيه فعلا حقيرة..

ـ أنت لم تسمع شيئا عن الضرب وأساليب الإذلال رغم أنها كانت تخدم أولادها وبناتها كلهم يضربونها حتى أبنت فضيلة الكبيرة اعتادت على صفع عبلة..

ـ إيه, هذا هو العراق لمن لم يعرفه بعد..ألتفت ناحية زينة وقال مهونا الأمر بعد أن وجموا جميعا ساكتين..



ـ على كل حال لنتحول إلى زينة لم تحدثونني عنها بأي شيء



وحميد

حميد الان ثريا ولا يعترف باحد

كيف اصبح ثريا..قالت زينب

خالي حميد تبدل أسمه واصبح حميد حواسم



وحاتم

يتلقى الصدقات من صاحب محل تركيب الزجاج



في النهاية يعتلي السطح هو واحمد ويبدءان بممارسة لعبة الطائرات الورقية